24-نوفمبر-2018

تمثال لكارل ماركس في مدينة ترير الألمانية (أسوشيتد برس)

قبل سنة من اليوم، أتيتُ المقهى الذي اعتدت الجلوس إليه رفقة الأصحاب، مزهوَّا بهديتي المثيرة المُلتفة حول معصمي؛ ساعة رولكس فاخرة، أُهديت لي من أخي الصغير الذي يعمل في الإمارات، والتي عادت بعد ذلك اليوم شبحًا يخيم على أفكاري.

الأخلاق الاشتراكية لم تكن نموذجًا ثابتًا، بل محط سجال دائم، يتخوف من يتخوف، أن يثقل كاهل قارئه بتعقيد هذه السجالات "المتخصصة"

ما شغلني لم يكن بالذات مبلغ أصلية الساعة، بل هو التناقض الذي أشار إليه الأصحاب: "كيف تكون شيوعيًا وتلبس ساعة بذلك الثمن؟!".

اقرأ/ي أيضًا: "اشتراكيو اللاتيه".. هل بإمكانك أن تكون اشتراكيًا وغنيًا في نفس الوقت؟

هذه الصورة من ذكرياتي الشخصية، وأثرها الصادم عليَّ، لم تكن سؤالًا غريبًا عن كل من تبنوا اليسار. ومفاد هذه الصورة بالذات محركٌ لمختلف التنظيرات الشيوعية التي تناسلت من متن ماركس وإنجلز، بل وقبل ذلك، كانت أساس الانشقاق بين الاشتراكيتين الطوباوية والعلمية.

إن الاستغراب البسيط، والوارد، في التناقض الذي أشار له الأصحاب، يحيلني على استغراب مشهور في خطاب من يناقض الشيوعية وهو: ما حدود شهوة الإنسان الحرة داخل المجتمع الاشتراكي؟ وهو بالذات سؤال ذو جدوى أعمق عند الشيوعيين أكثر من غيرهم: ما هي الأخلاق الشيوعية؟ أغلب الوقت، يظهر الجواب بديهيًا بأن "الشيوعيين هم أنصار الكادحين والمقهورين".

وتنم هذه البداهة في عمقها عن مغالطة، تبدي سوءتها للعلن إذا ما ووجهت، وهي: وإن انتهى وجود الكادحين تنتهي بذلك جدوى الاشتراكية؟ وقتئذ تسمع لها ردًا كردّ شخصية سُلطان (سعيد صالح) في  مسرحية "العيال كبرت": "على سنة الله ورسوله"!

إذ هذا الشرط ممكن التحقق، بتذبيح الكادحين عن بكرة أبيهم كذلك، وكأقصى انتصار ليوتوبيا النقيض الطبقي، معاكسة لمجرى التاريخ. أما المقصود فكونه لا يحقق موقفًا أيديولوجيًا صلبًا من الصراع.

بيد أن الأخلاق الاشتراكية لم تكن نموذجًا ثابتًا، بل محط سجال دائم، يتخوف من يتخوف، أن يثقل كاهل قارئه بتعقيد هذه السجالات "المتخصصة"، بيد أن لكل محطة من تاريخها قراءة مصححة لها، نجد أنفسنا مجبورين على استيعابها في هذه السطور كي تعم المعرفة، متحيزين بأقصى ما نملك من جهد إلى التبسيط، إرضاءً مناورًا لمن يبغضون الدسم.

مقدمات لفهم حقوق الإنسان

"وما كان تاريخ الأمم، مهما تكن قد خلت، إلا نقيضين يتصارعان: حر وعبد، نبيل وعامّيّ، معلم وصانع، بارون وقن"، يقول كارل ماركس في متنه بيانًا لعمَّال العالم، وبذات الكيفية لا يزال التطاحن قائمًا؛ برجوازية وبروليتاريا، مهما تعقد الأمر به.

ليست الاشتراكية العلمية نظرية أخلاقية، بل إدارة لصراع القوى الثوري، المحرك للتاريخ، والمتجسد في التناقض الطبقي

في عهد هذه المقولة كانت الثورة الفرنسية ما تزال يانعة، وكذا ما زالت هتافات الجموع بفرنسا يرجُّ صداها، شبحًا ينتاب أوروبا ككل، شبح بغاية الإنسانية، أسس له دعاته من فلاسفة الأنوار، أن يكون شعارًا ذا ألوان ثلاثة: مساواة، أخوية وحرية.

أفكار الثورة الفرنسية، على نبلها، إذ هي اتخذت زخم اللحظة التاريخية وحولته إلى مطالب مثالية؛ محكمة العقل على التاريخ، تخطئ صوابها بالملموس، لا تدعو في انفلاتها من الوعي بالمادة، إلا إلى أنسنة واقع الطبقة عبر حكم مثالي قهري، في قدسية حقوق الإنسان المفترضة. الطبقة التي تنتهي عندها علائق الإنتاج المادي الجديدة، ضد طبقة بادَت العلاقات التي كان تقيم عليها سلطتها، في واقع تطور فانسحب من بين يديها.

لتتحول البرجوازية من شكلها القروسطي كمعلمي الحرف، إلى الحديث كملَّاكٍ رأسماليين، وتحول الصناع الحرفيون والمياومون الأحرار إلى بروليتاريا كادحة.

بأي عين ننظر إلى هذه الوضعية الجديدة؟

لم يقف التطاحن التاريخي ها هنا. ومن رحم اللحظة، ومن حتمية الجدل ولدت الاشتراكية أوَّل الأمر، مزهوة بذات المد الثوري لطبقات جنينية لم تنبلج بعد من كَلس التاريخ، ولم تنضج بعد علاقاتها المادية، داعية إلى المساواة الطبقية المادية، بنفسِ إسبارطي منهزم، تعبير مقترض عن إنجلز، يشحذون بمقدمات أخلاقية منّة الظافرين.

وسينطق سان سيمون عن حق، بلغة تشابه لسان الأصحاب في المقهى: "أن ما يهم هو الطبقة الأكثر عددًا، والأشد فقرًا".

الاختلاف الجذري بين الاشتراكية العلمية والطوباوية أن الأولى تنظر إلى الملموس في تناقضاته والثانية تغفل التناقضات المادية

هكذا سينبني وعي الاشتراكية طوباويًا، على مفاهيم مطلقة للعدالة والحقيقة والحق، سيادة العقل في التاريخ، على غرار أفكار الأنوار، يكفي إعلانها لتتجسد بقوة ذاتية. وفي معزل عن النباهة، كون الشرط الذاتي هذا يخلق مفاهيم متعددة لهذا الحق والعدالة، متغيرة من منظر لآخر، انطباعية باردة، صدفة تحدث إذ هي منعزلة عن التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: الحتمية الاقتصادية أم الصراع الطبقي؟

بالتالي فإن طرح الإشكال الأخلاقي فيها مؤسس مسبقًا، على بنية الأخلاق البرجوازية، التي أثبتت بالملموس التاريخي أصلها الطبقي والمادي التي ترتبط به، بحيث لا يكون منها مجرد شرط زائد، بل جوهرها الوجودي. ولأجل هذا، يعلنها إنجلز: "لأجل تحويل الاشتراكية إلى علم، كان لا بد من وضعها على تربة الواقع".

الديمقراطية أولًا.. الديمقراطية أخيرًا

ينتصر الطرح الاشتراكي الطوباوي، في صيغته المتقدمة عند باكونين وكروبوتكين، إلى ضرورة المبادرة بإسقاط السلطة أولًا. ونسمع لأنصاره نحيبًا عبر القرون الخالية، يتكرر إلى الآن على سخفه، قائلًا: "آه الدولة هي مكمن البؤس، الدولة هي مصدر الشر"!

هذا، وعلى ذات السخافة، رأيٌ سديد. نصفه هو السديد أكثر. فالفهم الجنيني للاشتراكية، والذي طالعناه بعين الملموس التاريخي، نجده مبررًا في حالته الأولى، كون الإرادة التاريخية كانت لم تتفتق بعدُ عن عبقرية كالتي أتى بها الرجلان: ماركس وإنجلز. ولم يكن هذا الوعي الاشتراكي الجنيني، على كم المغالطات التي يحملها ويفضي إليها، إلا مفهومًا لذات اللحظة التاريخية، والعكس منطبق حتى على اشتراكية أبطالنا العظام، والتي ولدت نتاجًا لانصهار كل منتجات التاريخ/العقل بتعبيره الهيغلي، ونضج واقع الصراع، أي صراع المادة بين طبقات أوروبا في القرنين الـ18 والـ19.

بينما تنم أقوال الاشتراكيين الطوباويين على عدم فهم عميق للمعضلة، وإذا تم طرحها في سؤال: أي دور لعلاقات السلطة داخل علاقات الإنتاج؟ بمعنى أدق أي العلاقتين محمولة على الأخرى؟ فيتوثب أحدهم للجواب: "السلطة أولًا"! أليس بهكذا قول يفرغ محتوى الصراع المادي الاقتصادي، إلى صراع سياسي محض؟ وبالتالي ألا يُنزع عن الصراع جوهره المادي ويحوله إلى مثالية؟

نعم هم يقيمون الأمر كذلك، حتى في تصورهم الأوتوبِّي لما بعد سقوط السلطة، حيث تقوم فيه جماعات، لا مجتمعات، بتنظيم شأنها على أساس مثالي، مجانب للواقعية. ولو أخذوا من الماركسيين تعليلهم بالملموس، فذلك التعليل لا يعدو أن يكون سوى سند إمبريقي فاسد المنطلق، صالحًا لتنظيم عشيرة بدائية، ممارسته لا تاريخية أو نافلة تاريخيًا، على هامش الصراع الحق تقوم، صراع الطبقة ماديًا ضد أعدائها الماديين.

هنا الاختلاف الجذري بين الاشتراكية العلمية والطوباوية، أن الأولى تنظر إلى الملموس في تناقضاته، والثانية تغفل التناقضات المادية أو تحيلها تناقضات مثالية، في حقل السياسة وصراع الأخلاق، لا في حقل الاقتصاد وصراع المادة، تتمثل الواقع شعارات أخلاقية مجردة. تنظر بعين الكل، عين الصفر التي تتماثل فيها كل الأشياء، ويوضع فيها الشيوعي والبرجوازي والارستقراطي والسيد ورجل الدين في كفة واحدة.

أما في الضفة الأخرى للحديث، يكتفى باقتباس قول شامل للمعضلة، هو "إن مفهوم الديمقراطية يتغير في كل مرة يتغير فيها الديموس/الشعب؛ ومن هنا فإنه لا يتقدم بنا إلى الأمام قيد أنملة. إذ كان ينبغي أن يقال ما يلي: إن البروليتاريا بحاجة أيضًا، كي تستولي على السلطة السياسية، إلى أشكال ديمقراطية، لكنها لا تعدو أن تكون بالنسبة إليها وسيلة، مثلها مثل الأشكال السياسية جمعاء. وعليه، إذا سعى أحدهم الآن إلى الديمقراطية بوصفها هدفًا، فلن يكون أمامه مفر من الاعتماد على الفلاحين وعلى البرجوازية الصغيرة، أي على طبقات محكوم عليها بالزوال ورجعية تجاه البروليتاريا بمجرد أن تعقد العزم على إطالة بقائها بصورة مصطنعة"، كما قال إنجلز، في الرسالة 65.

أخلاقنا وأخلاقهم

إن موقف الاشتراكية في نسختها الجنينية، يحيلنا بالضرورة على تصورات أخلاقية جنينية، مهما بدت ذات بعد إنساني إلا وانطبعت بسمة عصرها، أقصد تصوراتها الإيتيقية البرجوازية، فلا تغدو بذلك قيمها إلا مفاهيم تعلو هذا التصور، مرتبطة به بشكل ديالكتيكي. هكذا ينظر إلى الحق عبر هذه الاشتراكية كقيمة تتمثل في التوزيع العادل للثروة، هذا التوزيع يرى في معزل عن أسلوب الإنتاج، وبالتالي تعرَّف الإشتراكية من خلالها كونها شأن إحساني يدور حول هذا التوزيع.

الاشتراكية العلمية ليست رأفةً على الكادحين، وإنما انضباط لسير التاريخ المتقدم دائمًا نحو الأمام، محيلًا القديم إلى هامشه

بالتالي هكذا تنظر الاشتراكية العلمية إلى الصراع الطبقي، لا بشكله اللزج المعبر عنه في مصطلحات: الكادحين والمقهورين والأغنياء والملاك. وما تحويه هذه المصطلحات من تعميم واستناد على الوصفية اللحظية. بل عبر تدقيق في كل مصطلح، يجتمع فيه العلم بالواقع، فيكون السؤال أكثر نقدًا وعمقًا، حيث تتقسم المجتمعات طبقات حسب أدوارها الاقتصادية في عملية الإنتاج، وحسب موقعها من التاريخ، فتكون: "ليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن أمام البرجوازية وجهًا لوجه إلا طبقة واحدة ثورية حقًا، هي البروليتاريا، فإن جميع الطبقات الأخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، أما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، أخص منتجات هذه الصناعة"، كما قال ماركس في "نقد برنامج غوته".

من هذا التناقض الجذري بين الاشتراكيتين، ينبني العداء ضد العلمية، والتي يشترك فيه النقيضين: البرجوازية والاشتراكية الطوباوية. ويكون النقيضين منه في جبهة واحدة ضد موقع العمال الثوري المحتوم. فيضعون بشكل مناقض الفاشية والماركسية في كفة واحدة، كفة الوحش اللاأخلاقي.

بهذه الكيفية، لا تكون الأخلاق فيها غير أداة الرجعية، لتأبيد شروط واقعها، وهي شروط تتجلى في تكتيكات البرجوازية لقلب مجرى التاريخ، وتتبطن في رومانسية التصورات الطوباوية الفوضوية. وتقوم منها شعارات السلام العالمي إلى مقام المخاتل، والنفعي في محاولة الحفاظ على مصالح بين البينين في الوسط، والوسط هنا شطط.

هنا، والنظرية تبلغ مداها في رسم حدود المعرفة التاريخية، أقف موقف القائل إن النظرية الاشتراكية العلمية ليست نظرية أخلاقية، بل إدارة لصراع القوى الثوري، المحرك للتاريخ، والمتجسد في التناقض الطبقي، ويجب على الطبقة الثائرة فيه أن تمتلك القوة، وتمارس القوة لا تستجدي إحسانًا من داخل شروط الواقع المحكوم بأدوات إنتاجه. فالاشتراكية العلمية ليست رأفةً على الكادحين، وإنما انضباط لسير التاريخ المتقدم دائمًا نحو الأمام، محيلًا القديم إلى هامشه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تعني الاشتراكية العدالة في توزيع الفقر؟

المانيفستو في ضيافة القرن 21