05-ديسمبر-2015

مظاهرة في أسطنبول في 27 تشرين الثاني/نوفمبر (Getty)

ﻻ يقتصر مفهوم الانفعال على ردة الفعل الآنية والسريعة غير المبنية بالعادة على التفكير العميق وتمحيص الأمور، بل إنها تشمل كذلك بالضرورة عدم المقدرة على المبادرة والقيام بالفعل أولًا، وانتظارَ الآخرين حتى يبدؤوا ومن ثمّ ملاحقتهم والمسير على خطاهم.

بعد إسقاط الطائرة الروسية، يستغرب قادة السياسية كيفية إدارة الأزمات في موسكو

أذكر هذه الكلمات لكي أصل بالقارئ إلى مقاربة حال السياسة الخارجية الروسية التي ورثت على ما يبدو من اتحادها السوفيتي السابق الانفعال الذي أوصله الى التفكك والضياع، وأفول نجمه كقطب عالمي في مواجهة الوﻻيات المتحدة . ولعل حادثة سقوط الطائرة الروسية "سوخوي24" في الأيام الماضية على يد قوات أنقرة أكدت هذه الفرضية، وأبعدت الاحتمالات والمراهنات بأن عصرًا جديدًا بدأ بالظهور فعلاً على الدببة ودولتهم ورئيسهم الذي اعتاد الجميع على منادته بالقيصر، حيث سرعان ما ردت روسيا بعقوبات اقتصادية وسياسية قاسية، وصلت حدتها إلى الرياضة بمنع التعاقد مع لاعبين أتراك أو إقامة معسكرات تدربية هناك، مما حدا بالكثيرين من قادة السياسية على التساؤل والاستغراب عن كيفية إدارة الأزمات في موسكو.

ﻻ شك أن اردوغان أخطأ التقدير بإسقاط الطائرة وهو ما بدا ظاهرًا عليه وعلى مسؤوليه في خطاباتهم المتكررة، ناهيك عن سعي الرئيس التركي شخصيًا للقاء الرئيس الروسي في قمة الأرض ولكن الأخير رفض ذلك، ولم تنته القصة هنا فحسب، بل إنّ الاتهامات التي كالها مسؤولون روس لتركيا وصلت إلى عائلة الرئيس نفسه بوصفها المستفيد الأول من تهريب نفط داعش.

لن أنقاش الكثير في جدوى ونجاعة تلك العقوبات التي تميل كفة الاستفادة فيها لروسيا بنسبة الثلثين تقريبًا، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 30 مليار دوﻻر: 21 مليار منها عائدات غاز طبيعي لروسيا. ولن أتكلم عن خط الغاز الذي تنوي موسكو إقامته على أراضي الأتراك الذي سيأمن بدوره استدامة وصول الغاز الى أوروبا بعيدًا عن أوكرانيا ومشاكلها، هذا اذا ما تناسينا أزمة البترودوﻻر التي عصفت بأسعار النفط وهوت بسعر صرف الروبل.

في مقابل هذا كله وعلى الطرف الآخر، يمتلك أردوغان خيارات ليست بسيطة ابدًا، فهناك قطر الحليفة الوثيقة لتركيا فيما بخص الغاز، ولعل السلطان بدأ فعلًا باستخدام ورقة ضغط الغاز القطري بزيارته إلى قطر قبل يومين، ناهيك عن الدعم الذي حصل عليه مؤخرًا من أوروبا لتخفيف مشاكلها فيما يخص ملف اللاجئين. 

السؤال الذي سيطرح في الآونة القادمة يتعلّق بقدرة الرئيس الروسي على اللعب مع خصومه المتحدين نوعًا ما

يعلم بوتين جيدًا أن سوريا ليست أوكرانيا حيث النفوذ المبني على الأيدلوجية واللغة والمصالح المشتركة مع قطاعات واسعة من "الأوكران"، ويعلم جيدًا أن هناك الكثير من اللاعبين الذي لربما يفوقونه تأثيرًا وقوة ويحملون في نفس الوقت أهدافًا مختلفة تمامًا عما يريده. وهذا يقودنا بطيبعة الحال إلى حتمية الاختلاف وإمكانية الخسارة، وهذا ما حدث فعلًا سواء كان بطائرة سيناء التي أسقطت أو بطائرة السوخوي التي لقت نفس المصير بسوريا. وإن صمت الوﻻيات المتحدة الأمريكية على التدخل ليس من موقف الضعيف، بل على العكس فهي ترى بسياسة الانسحاب التي نفذها الرئيس أوباما قد أراحت نفسها من عناء التدخل المباشر في المنطقة. لكنها لن تتوانى أبدًا عن ضرب أي كان اذا ما تخطى الخطوط الحمراء التي ترسمها دائمًا لإطالة أمد الصراع وتحديد توازناته.

السؤال الذي سيطرح في الآونة القادمة يتعلّق بقدرة الرئيس الروسي على اللعب مع خصومه المتحدين نوعًا ما. فالوﻻيات المتحدة الأمريكية والسعودية وتركيا وفرنسا وغيرهم ما زالوا يؤيدون دعم المعارضة كل حسب تصنيفه، وما زال قسم منهم ينادي برحيل الأسد أولًا قبل كل شيء، حتى فكرة أولوية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية التي ظهرت على السطح مؤخرًا لم نرَ أثرها واضحًا على الأرض ليخدم التواجد الروسي في الأراضي السورية.
 
ما حدث قبل أيام بإسقاط الطائرة لروسية كان واضحًا وﻻ يحتمل التفسير، فأنقره لن تسمح لكيان كردي مستقل بالتواجد على الحدود معها مهما كلفها الأمر، وأمريكا كذلك لن تسمح بضرب المنطقة الشمالية وتحديدًا منطقة جبل التركمان والأكراد التي يتزود منها المعارضون بالعتاد والمقاتلين، لعدم السماح لقوات النظام السوري بالتمدد إلى الشمال وكسب ورقة تفاوضية مهمة. 

لربما أخطأ بوتين بتقدير المدة الزمنية التي سيمكثها في بلادنا، فقد منّى نفسه بأشهر قليلة لقلب موازين القوى لصالح نظام بشار الأسد المتهالك، إﻻ أن ما يحدث على الأرض ينذر بطول المدة والخسائر كذلك. فهل سيتطيع "القيصر" أن يواصل التعنت رغم كل الملفات المعقدة؟ أم أنه سيجلس الى مائدة المفاوضات كغيره قابلًا بمعطيات اللعبة ونتائجها؟ أظنه سيقبل بالأمر الواقع نهاية.

اقرأ/ي أيضًا:

موسم الحج إلى موسكو

تركيا.. السلطان يعود من الجديد