06-مارس-2016

مكسيم رودنسون 1915- 2004

عاش مكسيم رودنسون (1915-2004) ومات في فرنسا بلده الأم، وخلال حياته التي امتدت إلى تسعة وثمانين حولًا كرّسها في الدراسة والتأليف، شغلت الثقافة الإسلامية الحيز الأعظم من تفكيره وجهده. يقول رودنسون في كتابه "أوروبا وسحر الإسلام" عن العلاقة العاطفية التي جمعته بالإسلام والمسلمين: "كرست سنوات طويلة من عمري لدراسة الإسلام والتاريخ الإسلامي والشعوب الإسلامية، وفي الوقت نفسه كنت شغوفًا بالطريقة التي تعامل بها الشعوب الأوروبية -بخاصة الباحثين منهم- الشعوب الإسلامية"، ويتساءل عن سبب هذا الشغف، ويجيب: "ربما لأنني لم أكن متيقنًا من فهمي للإسلام".

أكد المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون في مقال له على كون إسرائيل واقعًا استعماريًا حقيقيًا

لقد ترك الباحث الفرنسي وراءه عددًا كبيرًا من الآثار والكتب التي ترجمت جميعها إلى اللغة العربية: "الماركسية والعالم الإسلامي" و"عظمة الإسلام" و"الرأسمالية والإسلام"، غير أن مؤلفه الشهير "محمد" لم يترجم بعد. يذكر رودنسون الذي ينحدر من أصل يهودي في كتابه غير المترجم أن النبي العربي عرف كمثال للكمال البدني والفكري والخلقي قبل بلوغه الأربعين وتكليفه بالرسالة. كما عرف برفضه لعبادة الأصنام والممارسات الوثنية التي كانت مكة أحد أهم مراكزها في المنطقة قبل أن تنتهي لديانة التوحيد فيما بعد.

اقرأ/ي أيضًا: أنسي الحاج.. نصوص غير منشورة

ويبدو أن تجربة والدي رودنسون اليهوديين بعد فرارهما من مذابح ارتكبتها الإمبراطورية الروسية بحق اليهود، واستقرارهما في باريس في منطقة ناطقة باللغة اليديشية وهي لغة يهود أوروبا، ودعمهما المطلق لاحقًا لكل حراك ثوري معادي للإمبراطورية الروسية، ومناصرتهما للطبقة العاملة والانضمام للحزب الشيوعي، قد أفادته في صقل فضوله المعرفي تجاه الثقافات الأخرى، فولع بالثقافة العربية والإسلامية، حتى أنه طرد من الحزب الشيوعي الفرنسي حين أبدى انتقادات لاذعة لإسرائيل ورفض سياسة الاستيطان اليهودي في فلسطين.

ولا تغيب عن الذهن مقالته الشهيرة التي ترجمت إلى الكثير من اللغات "إسرائيل: واقع استعماري؟" التي نشرت في مجلة "شؤون فلسطينية"، الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت في سبعينيات القرن الماضي، وكانت إجابة رودنسون في مقاله على علامة الاستفهام في العنوان لا تحتمل اللبس، حيث أكد كون إسرائيل واقعًا استعماريًا، مع التأكيد في الوقت ذاته على أن أي حل للصراع لا يمكن أن يقوم على أساس علاج مشكلة سياسية وإنسانية وبشرية بخلق مشكلة جديدة، في وضع تعيش مثله بلدان أخرى في العالم الثالث كانت تضم كتلًا بشرية ناجمة عن الغزو الاستعماري، مثل جنوب أفريقيا.

كما يعود الفضل للمؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع الماركسي في إطلاق مصطلح "الفاشية الإسلامية" الذي وسم الثورة الإسلامية الإيرانية 1979.

اقرأ/ي أيضًا: مدونة أمبرتو إيكو.. حدود المعرفة وفضاء الخيال

لا تصادف اليوم ذكرى ولادة هذا الرجل الذي قضى عمره بحثًا في العلم، كما أنه لا تصادف ذكرى وفاته أيضًا، غير أن الدافع الرئيسي الذي ابتدرني للتذكير بهذه الشخصية العلمية المهمة، أنها شكّلت علامة مهمة في مسار الدراسات الاجتماعية-التاريخية والسياسية العالمية الجادة عن العالمين العربي والإسلامي. شخصية يؤمل أن يعرفها الكثيرون ممن استسهلوا الخوض في أمور الثقافة، علهم يبعدون قليلًا عن المشهد العربي العام صورة حبة البندورة التي رسم في داخلها الصليب، أو حبة الرمان التي تفجرت في مقدمتها النجمة السداسية، أو بيضة الدجاجة التي تهيأ لعقول البعض أن الله قد شاء أن يبرهن على قدرته الفائقة الكبرى فترك اسمه على قشرتها. في عودة لا تذكر إلا بالوثنية المادية القديمة، التي تقرب بها الوثنيون إلى الله زلفى، قبل أن تحطمها تجريدية الإيمان المطلق بالغيبيات.

تبقى أعمال المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون إسهامًا مهمًا يغني الحركة التقدمية العربية

بين هذين النوعين من الإيمان، قد يقف الكثيرون موقف الناقد والمشكك، لكن المفارقة الكبرى تكون حين يصدق بالبندورة من يضع الصليب على صدره، وحين يصدق بالبيضة من يصلي خمس مرات لإله منزه بقدرته على كل شيء. 

قد يكون التذكير بشخصيات آمنت بالبحث العلمي متنصلة من الإيديولوجيات المفروضة عليها، ومن البرمجة الدينية الموروثة، خير وسيلة في هذا الزمن لاستدراك ما لم يتلف بعد من خلايا سليمة يمثلها الشباب المؤمن بضرورة البحث والرافض لتوثين الخضروات والفواكه.

هكذا ورغم اختلاف البعض مع طروحات رودنسون إلا أنه لا يمكن إنكار دور هذا الشخص اليساري في بلورة نظرة مهمة حول الثقافة العربية وارتباطها بالإسلام. مبتعدًا في ذلك عن التخمين والتضليل الذي شاب الكثير من كتب الاستشراق.

كتب المناضل الجزائري، محمد حربي، القيادي السابق في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، في صحيفة "لوموند" الفرنسية، بعد وفاة صاحب "عظمة الإسلام": "لقد مات مكسيم رودنسون، ولكن أعماله الغنية والمنفتحة والراهنة والدائمة في آن واحد، لن تبقى رهينة غبار المكتبات، وستبقى تبقى إسهامًا مهمًا يغني الحركة التقدمية العربية".

اقرأ/ي أيضًا:

دليل المبتدئين في صناعة الدكتاتور

سلمان ناطور في سفره الطويل