09-يناير-2025
وادي الفراشات

غلاف رواية "وادي الفراشات" (الترا صوت)

لطالما كنت مع الرأي القائل بأن واقعنا أشد تراجيدية وغرابة مما قد كُتب في الروايات العربية أو العالمية، وأن كافكا لو مكث بيننا لبدت رواياته كوميدية أمام ما عصف بنا من نوائب ما زالت تتوالى، من بغداد إلى بيروت!

رواية "وادي الفراشات" للكاتب العراقي أزهر جرجيس، الصادرة عن "دار الرافدين" بالتعاون مع "دار مسكيلياني" عام 2024؛ رواية واقعية في مركزها، خيالية في أطرها المتعددة، واضحة في ظاهرها وغامضة في تأويلات رموزها. تأخذ من بغداد مسرحًا لأحداثها ومن العراق ومضات من الزمن، فتراه تحت الحصار، ثم مرحلة السقوط وما تلاها، وصولًا إلى العام الفائت. ومع كل تغير في الزمان تتغير تفاصيل المسرح وأثاثه، فينبت حاجز هنا ومدعي تدين هناك، لكن الثابت يبقى حزن العراقي الشاب على نفسه ووطنه وحاضره ومستقبله مسدود الأفق.

"وادي الفراشات" رحلة بحث عن الذات من أجل تحقيقها في الممرات الضيقة للحياة الممكنة، أي بإدنى حد من إمكانية التعلم والعمل ضمن الاختصاص الجامعي، وفي فترة عصيبة من تاريخ العراق، لكن من دون جدوى. رحلة محاولة العمل في أي شيء ومقابل أي شيء من أجل تحقيق ولو حلم واحد من أحلامنا المُغتالة.

لو مكث كافكا بيننا لبدت رواياته كوميدية مقارنةً بما عصف بنا من نوائب ما زالت تتوالى من بغداد إلى بيروت!

إنها رحلة الحفاظ على إنسانيتنا بوجهها الأنضر، أي الحب والكفاح من أجله بسقف ولو مثقوب يجمع ما بين قلبين قد تحابا ووقف القدر والزمن والغدر ضدهما منذ البداية، وحتى ما بعد النهاية. رحلة محاولة الحفاظ على أحبة يشكلون درعًا أمام رياح القدر العاتية، لتجنب عري الوقوف وحيدًا. رحلة من القرارات الخاطئة أو من سوء تقدير الاحتمالات تتراكم شيئًا فشيئًا ليجد الراوي نفسه في ختام النص وقد مضت حياته وشكلت كل تلك التراكمات ما سيعرفه بكلمة "حياة"!

وهي أكثر من ذلك، فالكاتب أجاد لعبة الغموض ما بين العنوان والنص، وسأترك للقارئ متعة اكتشاف هذا المعنى ومفاعيله، وكيف أثر على سيرورة الأحداث داخل الرواية. كما أجاد لعبة تضمين العادي من الحياة بين السطور من مشاكل عائلية وأسرية، بالإضافة إلى مسائل مثل الواسطة والرشوة وغيرها، بطريقة سلسة جدًا. لم ينس الراوي أزمة الكتب والمثقف، إذ حضرت في شخصية تشجع على القراءة وتستوعب سفاهة بعض المتثاقفين، وتحيا حياتها في صراع ضد إغلاق المكتبة وتحويلها إلى بقالة!

من الناحية الأسلوبية، كان جرجيس أمينًا للصوت الأول، وهو الذي ينفر من الصوت العليم داخل نصوصه. صوت شاب قلق ضائع تتقاذفه رياح الحظ العاثر والزمن الماكر من مصيبة إلى أخرى، بفعل سذاجته حينًا وسوء طالعه في أحيان أخرى. وبحبكة متينة البناء، بعيدة عن المبالغات والتصنع، وبلغة جزلة حركية تتراوح ما بين الكوميديا السوداء والتراجيديا في تعبيراتها؛ يسحب جرجيس القارئ إلى داخل النص ويمكنه من إنهاء القراءة في جلسة واحدة. كما اختار أن يشظي نصه ما بين لحظتين: لحظة وصول الكتاب في الفصل الأول، ولحظة التحرر في الفصل الأخير. بل وجعل النص يروي نفسه بطريقة استرجاعية من دون أن يغفل عن بث ذلك البصيص من الأمل مع ختام النص بعد تراكم كل تلك الخسارات.

رواية "وادي الفراشات" حمّالة أوجه، فالطفل الضائع، على سبيل المثال، قد يكون العراق الذي ضاع وما زال أهله يبحثون عنه ليلًا ونهارًا. ورغم أنهم وجدوا أشباهًا له في بعض الأحيان، إلا أنهم لم يقتنعوا بها وتابعوا البحث. والطفل الصغير في النهاية قد يكون كناية عن كتابة فصل جديد، مستقبل جديد أوسع مدى وأقل حزنًا وأكثر ابتسامًا.