25-فبراير-2022

الكاتب خليل ناصيف

لا يمكننا إلا التسليم بأن الحديث عن التابوهات الثلاث في الأدب يُعَد خوضًا لحرب بين السائد والمعارض من النصوص، سواء كانت روائية أو سرديات قصيرة أو حتى شعرًا، فكيف إذا كان النص يتحدث عن المثلية الجنسية التي يتحاشى المجتمع الخوض فيها أو حتى مواجهتها إلا ما ندر عبر روايات خجولة كُتبت بأقلام نسائية كهدى بركات في روايتها "حجر الضحك"، وزينب حفني في روايتها "ملامح"، وإلهام منصور التي عنونت سرديتها بـ "أنا هي أنت"، عدا الكُتاب الرجال الذين تطرقوا إلى هذا الجانب بحذر شديد إن لم يكن مُدينًا ونابذًا لهذه الفئة، على سبيل الذِّكر "عودة الألماني إلى رشده" للكاتب اللبناني رشيد الضعيف وآخرين لم تتعدّ الشخصية المثلية في رواياتهم دور الشخصية الثانوية المنبوذة.

في رواية "نانا"، نجد الشخصية الأساسية هاربة من ذاتها إلى المجهول تبحث عن خلاصها

هذا إلى جانب بعض الأفلام العربية الذي آخرها فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي تطرق لشخصية مثلية منطوية لا تشارك الأصدقاء مغامراتهم، وربما لو فعل لأدى ذلك إلى خسارته لهم.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "متاهة الإسكندرية".. الموت الأليف كذكرى

شخصية نانا، الفتاة المثلية، في رواية خليل ناصيف شخصية محورية وكل ما يحيط بها من شخوص، سواء كانت متعاطفة أو معيقة لوجودها مقصية له، حتى الشخصية ذاتها هاربة إلى المجهول تبحث عن خلاصها.

تدور أحداث الرواية (منشورات إيبيدي 2021) في خمسة أمكنة متنقلة بين عمان، ألمانيا، رام الله، بيروت، الأقصر في مصر.

هذه الأمكنة التي حاول الكاتب متنقلًا بينها باحثًا عن بيئة حاضنة لهذه الشخصية التي تشكلت بفعل محيط يشل الحركة فيهرب بأناها المعذبة متوهمًا خلاصها، إلا أنها تتورط أكثر وتجابَه بالإقصاء والرفض وتحل لعنتها ووزرها على من يمدون لها أيديهم، حتى الكاتب الذي يتقمص دور القاص فيتشبث بطوق نجاة مثقوب، ليخلص من براثن سلطة النص السائد ومريديه المتأهبين لإطلاق وابل رصاصهم معدمين النص وكاتبه.

خليل ناصيف الكاتب المتمرد والإشكالي الذي يهوى الخوض في غاب النص وأدغاله في غالبية نصوصه وعوالمها الغرائبية، يحاول من خلال روايته هذه طرح قضية شائكة في مجتمع يرفض المثلية عقائديا واجتماعيًا. ناصيف الذي يصفع بسرديته وجه مجتمع يعيش رذائله في الخفاء وفي العلن سيد الطهر والفضيلة، مجتمع يفضل وضع رأسه بالرمل على مبدأ إذا بليتم فاستتروا.

خليل المتعاطف مع بطلته حيث جعلنا نعيش كل انفعالاتها النفسية باقتدار إلا أنه كان حذرًا متأرجحًا على نصل نصه فظهر دائمًا مبررًا لكل سلوك وكل تصرف تقوم به نانا. لم يتوغل كثيرًا في عوالم المثليين أو العابرين جنسيًا، ففي مجتمعاتنا ردة الفعل تكون أخف وطأة تجاه العابرات من عكسها، إذ يعتبر ذلك عيبًا خَلقيًاـ خاصة أنه سيحيل فتاة إلى رجل وهذا يتم تقبله إلى حد ما، لكن اللافت في قضية نانا أنها ليست عابرة ولم تصرّح لأهلها بأن لديها مشكلة خلقية، ولم تتطرق الرواية لمعرفة الأهل بوجود هكذا عيب لديها بل قاموا بتزويجها. نانا شخصية تفتقد للعاطفة التي لم تجدها في عالم الذكور، الذين نظروا لها فقط كجسد.

في روايته "نانا"، خليل ناصيف كاتب يهوى الخوض في أدغال النصوص وعوالمها الغرائبية

لم أجد اضطراب الهوية جليًا في شخصية نانا، لم تبحث عن الجنس كهدف بل كان جوعها العاطفي هو الذي يحركها. كتبت نانا في مذكراتها: "حلمت بأنني على شاطئ جميل، رماله تلمع كحبات لؤلؤ، يتلون بزرقة السماء الصافية، التقيتُ حبيبي عشيًا على البحر تكلمنا ضحكنا لا يريد أن يتركني.. أخذ يقبلني كالمجنون لم أصدق هل أنا في حلم؟ شعرت أنني فراشة".

اقرأ/ي أيضًا: تمارين الشعر اليومية

في أكثر من نص من مذكراتها تظهر هذه العاطفة الفطرية صبية مراهقة تحلم بفارس أحلامها، فما الذي يحوّل هذه الفتاة إلى مثلية؟ لم أجد تفسيرًا في الرواية ولو عرَضًا، نانا ليست وحيدة في العائلة لديها إخوة وأخوات ولم يكن لهم وجود في بنية الرواية. وهنا قفزت أسئلة عالقة ليس لها أجوبة في ذهني. الظروف الاجتماعية التي نشأت بها لم تكن محرضًا لهذا التحول ولم تكن جزءا منه بأي حال: هل الحب يقود للجنس أم العكس؟ هل الاحتياج العاطفي يتم تفريغه جسديًا بغض عن جنس الشريك؟

يقول هاري نوكس أحد أعضاء مجلس مستشاري أوباما، والمدافع عن حقوق المثليين "إن حرية اختيار نوعية العلاقة الجنسية تتوفر لدى النساء السحاقيات، حيث بإمكانهن ممارسة الجنس مع الرجل، والكثير منهن يلجأن إلى المثلية بعد فشل في العلاقة الزوجية، أو حصول اضطراب في العلاقة الجنسية مع الجنس المغاير، في حين هذا يختلف مع المثليين حيث إن بعضهم لا يستطيع ممارسة الجنس فعليًا مع النساء وهؤلاء هم الذين تكون المثلية لديهم حالة طبيعية".

من تتبع أحداث الرواية نجد أن ما تعرضت له من قسوة ونبذ من قبل العائلة والبيئة المحيطة قد جعل الروائي يتبنى تلك الأسباب التي حسب سير الأحداث قد ساهمت إلى حد كبير في تعزيز هذه الحالة وتفاقمها، إذا ما تتبعنا علاقاتها المتعددة نجدها تعاني اضطرابًا نفسيًا وليس سيكولوجيا فحسب، إذ حاولت من خلال علاقة زواج طبيعية إرضاء للمحيط، إلا أنها فشلت في تقبل هذه العلاقة وفرّت بجسدها وروحها إلى حيث أمانها الذي تنشده، لكنها بقيت تعاني من عزلة نفسية فاقمت من حالتها.

جابه خليل ناصيف الواقع لكنه كان حذرًا جدًا فساق بطلة رواية "نانا" إلى الفناء بعد أن حاول إنقاذها واحتوائها

أما صابرين الشخصية المساندة المتزوجة والتي مرت بمنعطفات خطرة عبر زيجاتها الفاشلة استطاعت السيطرة على جسدها، ولم تسمح لحالة الضعف التي كانت تعتريها في الاستجابة لهذه الميول غير السوية بعرف المجتمع والشرائع.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "الصوت النائم".. ذاكرة الحرب المحرّمة

يحسب لناصيف جرأته في تناول هذه القصة الشائكة، فجابه الواقع لكنه كان حذرًا جدًا فساق بطلة الرواية إلى الفناء بعد أن حاول إنقاذها واحتوائها، حملها على كاهل النص لإيجاد بيئة حاضنة في مجتمعها، لكنه فشل فما كان منه إلا أن سلّمها لقدرها المحتوم بالموت، وكأنه بهذا الهروب إلى الموت قد خلص المجتمع من وزرها لكن لعنتها ستبقى تلاحقه كما لعنة الفراعنة الذين اختارت نهايتها بين آثارهم.  

خليل ناصيف الكاتب المتصالح مع نفسه والثائر على كل ما يتعارض وقناعاته، الناقم على مجتمع يعاني من الانفصام في تعاطيه مع هكذا قضايا، نشر غسيل بطلته على الأسطح لعلّ شمس الحقيقة تسطع مطهرة ما علق به من عفونة.

رواية "نانا" رواية متميزة في المعالجة السردية بأسلوب شيّق ورشيق. خلق المؤلف خليل ناصيف من خلالها حيزًا متخيلًا لافتًا إلى قدرته بالتحليق بنا في فضاءات النص مظهرًا إبداعًا يبشر بروائي له حضوره وبصمته في الأدب الفلسطيني والعربي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "حبر الغراب".. غواية إخفاء المعنى

سرايا بنت الغول: الخرافيّة وواقعيتُها