06-يوليو-2021

الكاتبة فتحية دبش

بعض العناوين مربِكة، يصعبُ معرفة المعنى المقصود منها من أوّل قراءة؛ لأنها تحمل الكثير من التفاسير، كـ"ميلانين" (منشورات دار العرب للنشر والتوزيع 2019) العنوان الذي وسمتْ به الروائية الناقدة فتحية دبّش رائعتها الفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية المنشورة في دورتها السادسة. العنوان ليس بالغريب على مَن لا يتوانون لحظةً واحدة في البحث عن المعاني المحمولة في الألفاظ الغريبة، أولئك الذين ينهلون من العلوم سهلها وصعبها، فمثلًا بالنسبة لعلماء الجينات يبدو المصطلح مفهومًا، مقارنةً بنا نحن غير أهل الاختصاص، كان لزامًا علينا أن نتوغّل في النصِّ والفُضول يدفعنا لفهم الميلانين.

تتخذ فتحية دبّش من مادة الميلانين، تلك الصِبغة الطبيعية التي تُنتجها خلايا خاصَّة في أجسامنا عنوانًا لنصِّها الروائي

ولعلَّ الروائية كانت تُخاتلنا وتُرغمنا على التمسُّك بخيوط نصِّها، فقد تعمَّدت أن لا تذكره منذ البداية، حتَّى تشدّنا إلى النَّص.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة حيدر الدرة

مادة الميلانين، تلك الصِبغة الطبيعية التي تُنتجها خلايا خاصَّة في أجسامنا، وهي المسؤولة عن لون بِشرتنا وعيوننا وشَعرنا، تتخذ منها الروائية عنوانًا لنصِّها، مراوِغةً كبار النُقَّاد والمشتغلين في الحقل الأدبي، مُجبرةً إيَّاهم على البحث عن المعنى، ولن يتسنَّى ذلك إلَّا من خلال القراءة بتؤدة، القراءة التي ضَبَطتْ إيقاعها من الوهلة الأولى، بأسلوبها السلس وجُمَلها الإخبارية القصيرة، المُتكئة على الأفعال تارةً وعلى الأسماء حينًا.

الميلانين طرحتْ أسئلة عديدة: صراع الهوية، الهجرة، التشظي، العنصرية، الثورة، الحُب. كما أعطتْ درسًا في بناء الرواية داخل النص نفسه، ولعلَّ هذا سرًّا آخر من أسرار نجاحها ولفتها لمبضع النُقَّاد، وهذه تقنية انفردت بها ستُحسب لها عاجلًا أم آجلًا.

لن أتعرّض هنا إلى شخوصها لأن الكتابة ستطول، فلكلّ شخصية بطاقتها الفنيّة وحركتها داخل المتن، ولن أتعرض للزمان ولا المكان الجارية فيهما وخلالهما الأحداث إلَّا اضطرارًا، ولكنّ هناك عُنف وقعَ ويقعُ على النصوص من طرف القُراء، ربّما تكون دوافعه إيديولوجية يُتعصَّب لها، أو الرفض للآخر، لا سيما إذا كان ذلك الآخر يتمتَّع بنفس هوية المؤلف، متى يُدرك القارئ أن القصَّة أو الرواية هي حكاية بعد إعادة صياغتها واستثناء قائلها؟ وعلى القارئ أن يُشكِّل خلفية الأحداث بحدسه وخياله!

ولكي تتخلَّص من هذه المُعضلة، تقول على الصفحة (24): "لم تكن علاقتنا حميميّة ودافئة دائمًا، لم يكن فيها الحبُّ دائمًا هو السيّد، بل طالتْها فترات من العزوف والإعراض، ونوبات من اللوم والعتاب الحادّ، وعنف المشادّات، التي كثيرًا ما ضجَّت بها كلماتنا. يتسلّل إلى نصِّي يتعثَّر بي وأتعثَّر به، يتحوّل الأمر إلى صراع يضَعُني أمام معضلة الكتابة، بين مطرقةٍ وسندان، مطرقة الرقمية وحينيّتها وسندان ثقافة الرقيب والممنوعات".

تُذكِّرنا بنظرية رولان بارت "موت المؤلِف" فتستطرد قائلة: وأحاولُ إقناعه بأن الرَّقمنة بعثتْ المؤلِف. يُدافع كلّ منّا على حقّه في توجيه دفَّة الأحداث إلى حيث يريد.

إن عملية البناء تمرُّ بمراحل يحسُّها المؤلف، يُخطّط، يرسم مجرى الأحداث، يخلق شخوصه، ثمَّ من دون دراية يشعر فجأة أن شخوصه تمرّدوا عليه وسلكوا طريقًا آخرًا، فما عليه إذْ ذاك إلَّا الانصياع وراءهم، حيث تقول: "الراوي ليس إلَّا نرجسيًا معوجًا، ليس له من هاجس إلَّا التلاعب بشخوصه، وتطويعها خدمة للذّة غامضة في جعلها مكعّبات رياضية أو دُمى يتحكَّم بأقدارها".

ويبدو أن فتحية متشرِّبة من المُبين، ممّا جعل نسقًا محمودًا زينَّ الذائقة تلبَّست به ملكَتها الإبداعية، سواءً أكان عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، يُلاحَظ ذلك في اقتباساتها على القصاصة رقم 2: "حتَّى جامعة القيروان هناك حيث لم ألتقيك- كما يُفترض في روايات الحُبّ وأنا طالب في كلّية الآداب- لم تعدْ تحتفي بآمالنا وأحلامنا بل صارت عُشًّا للغرابيب السود".

وتقول كذلك في القصاصة الأخيرة: "كُتِبَ عليك السفر كما كُتِبَ على النساء من قبلك، وكُتِبَ عليَّ الموت بجرعة من حبر كما كُتِبَ على أبطال كلّ الحكايات من قبلي".

تطرح رواية "ميلانين" قضايا عديدة مثل صراع الهوية، الهجرة، التشظي، العنصرية، الثورة، الحُب

اقرأ/ي أيضًا: حسين جرود في "أول شيء.. سيرة زيتية".. قصائد ما بعد المجزرة

وفي هذا المشهد صراع الهوية، حيث ماري لي بلان تأبى تقبُّل واقع ابنها: "ابني الوحيد صار له ابن وصِرت جدّة".

أربّتُ على كفها اللّزجة من فرط نعومتها، أباركُ لها الحدث، ّ وابتسم لها صادقة، أ تساءل في سّري عن سّر غيرة الكبار من الصغار. لكّنها تُعيد جذبي إليها، وتُضيف بصوت خافت: "ولكنه أسمر! هو الأول في عائلتنا".

"أسمر؟ " قلت ذلك مستنكرة.

"نعم، أسمر!"

أردفتْ: "مسيو لي بلان رجل من أعيان قرية ريفيّة، سوف يتقلّب كثيرًا في قبره حين يعرف أن طفله الأشقر أهداه حفيدًا أسمر" أسألها كيف التقى ابنها بزوجته السوداء. فتردّ: "لا لا هي ليست أفريقيّة، كان الأمر سيكون أهون إن كانت أفريقيّة، على الأقل ما كانت ستحمله على ترك دينه.. هذه عربيّة، شديدة السمرة، وفوق هذا مسلمة، قريبًا سيباغتني خبر خروجه من فرنسا إلى الجهاد... هكذا يفعلون! سوف تعبر به الدنيا إلى جحيمهم مباشرة.. حسرتي عليه".

الميلانين رواية الاغتراب بامتياز، أظهرتْ اللغة العربية في أبهى حُللها في غير موطنها وهذا بحدّ ذاته انتصار للروائية وللّغة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن مؤَلِّفٍ اسمُهُ اللّسان

عن فتى الشّعر الأزرق وصاحبِ اليوتوبيا