08-ديسمبر-2022
ملك اللصوص-تيسير خلف

تيسير خلف وروايته

اعتدنا على ربط ثورات العبيد بشخصية سبارتاكوس، الذي لم يعد ثائرًا يتطلع إلى الحرية وحسب، بل اكتسب أبعادًا أسطورية جعلت منه رمزًا راسخًا للرفض، أو هذا ما يظهر عليه في فيلم ستانلي كوبريك عنه أو قصيدة أمل دنقل الرثائية. لكن التاريخ يخبرنا بأنّ هناك شخصية ثورية أقدم هي التي افتتحت سلسلة حروب العبيد التي عرفتها الإمبراطورية الرومانية، وهي شخصية إيونوس السوري التي قدّمت تصوّرًا مبكرًا عن رفض العبودية. وفي الوقت الذي أُنصف فيه سبارتاكوس حُطَّ من شأن إيونوس.

يخبرنا التاريخ بأنّ هناك شخصية ثورية أقدم من شخصية سبارتاكوس افتتحت سلسلة حروب العبيد التي عرفتها الإمبراطورية الرومانية، وهي شخصية إيونوس السوري التي قدّمت تصوّرًا مبكرًا عن رفض العبودية

والآن ها هي رواية "ملك اللصوص" (منشوررات المتوسط 2022) لتيسير خلف تعيد صياغة مفتتح مشكلة العبودية في العالم القديم بشكل درامي، وحياة دولة المنفيين التي استطاع إيونوس أن يؤسّسها مع عبيد سوريين آخرين في جزيرة صقلية، بحدود عام 136 قبل الميلاد.

الرواية التي بين أيدينا هي مرافعة إيونوس، أو رؤيته الشخصية لكل ما حدث له في صقلية، وذلك ردًّا على كتابات رومانية معادية وصمته بالكذب والشعوذة والغرور والتهريج والقذارة أيضًا. ولهذا يكتب نصه، الذي نقرأه في رواية تيسير، ليروي حقيقة ما جرى موجهًا كلامه إلى المؤرخ والفيلسوف السوري الأفامي بوسيدونوس، ومن هنا يأتي عنوانها الفرعي "لفائف إيونوس السوري".

بعد شباب حائر، يمرّ الكاهن الشاب إيونوس بمجموعة من التجارب القاسية، ولهذا يقرر ترك معبد الفالوس. بالتزامن مع ذلك تظهر فتاة صهباء ترعى الماعز، وبدلًا من ملاحقة الربة السورية في المعابد، يحوّل تلك الفتاة إلى ربة ويلاحقها في البراري.

يقوده حظه العاثر للوقوع في شباك صيادي العبيد، وينتهي مباعًا لأحد الأغنياء في جزيرة صقلية، لكنه بعد مدة من حياته هناك يحصل على مكانة لدى أسياده نظرًا لظهور قدرات تنبؤية عنده تجعله قادرًا على قراءة الغيب، أو فاهمًا لإشاراته. وبهذا ينقذ سيده من موت محتوم حين يمنعه من الخروج، وفي تلك اللحظة تضرب صاعقة العربة التي كان موشكًا على أن يستقلها، فتحترق ويموت حوذيها.

فيما بعد، مع ازدياد جور الأسياد الرومان على العبيد، نراهم يثورون، ويؤسسون مملكة مستقلة، وينصبون إيونوس ملكًا عليهم. وبدوره يعثر على الراعية التي رآها في سوريا، واسمها بيرثا، لكن المحيّر إعلانها أمامه أنها لم تكن راعية أبدًا.

تحكي الرواية سيرة مليئة بالتحولات، فإيونوس أوشك على التحول إلى كاهن، ثم اكتشف فساد المؤسسة الدينية وغيّر مساره، ثم تعثر حظه فصار عبدًا في المنفى، ثم ملكًا، ثم سجينًا. كأن هذه المنعطفات العجيبة التي تصادف بطل الرواية هي ما ينتظرنا نحن البشر في كل مكان وزمان نعيش فيهما. هل فعلًا يعيش الإنسان كي يبحث عن نفسه؟ حسنًا، بينما يفعل ذلك من يكون؟ أليس ذاتًا وموضوعًا في وقت واحد؟ وإذا كان غالبية البشر لا يجدون أنفسهم، بل يظلون في حالة البحث تلك، حيث تتدخل الأقدار والحظوظ لتأخذهم حيث لا يريدون، وتغير من المسار الذي أرادوا رسمه، فهل هذا يعني أنهم أصحاب النفوس التي كانوا عليها أو التي صارت لهم خلال بحثهم؟

هذه الأسئلة حاضرة بقوة في الرواية، فمع كل ما تحمله من تركيز على قصة صعود مملكة العبيد وانهيارها، فإنها تراقب النفس البشرية، وتعاين جوهرها من الداخل، مرة من خلال التناقضات التي يقع فيها المطالب بالعدالة حين يصبح سفاحًا، ومرة أخرى من خلال التخيلات حين يمزج بطلنا بين محبوبته والربة.

تحكي الرواية سيرة مليئة بالتحولات، فإيونوس أوشك على التحول إلى كاهن، ثم اكتشف فساد المؤسسة الدينية وغيّر مساره، ثم تعثر حظه فصار عبدًا في المنفى، ثم ملكًا، ثم سجينًا

استطاع إيونوس الجمع بين النبي والثائر والملك. هو كل هؤلاء في خلطة فريدة، وربما هذا ما يجعل من قصته جديرة بأن تروى بعد كل هذه القرون، مع أنه يسقط في امتحان السلطة، بعد صراع أركان الثورة.

يرد في رواية "أولا الغيتو.. اسمي آدم" لالياس خوري: "العرب القدماء بنوا أسطورتهم على مثّلث الشّاعر- النّبي- الملك. وقد بدأتْ هذه التّرسمية مع امرئ القيس الذي كان شاعرًا وملكًا، ووصلت إلى ذروتها مع المتنبي الذي كان شاعرًا ونبيًا ويسعى إلى الملك. ولا تزال آثار هذه الترسمية محفورةً كالوشم في الشعر العربي إلى يومنا هذا". شخصية إيونوس تقع في قلب هذه الترسمية القديمة، غير أن الثالوث في حالته ليس: الشّاعر- النّبي- الملك، بل ربما هو: الثائر- النّبي- الملك.

إذا كان الشاعر يستخدم الكلمات للتعبير عن حقيقة العالم، وكان النبي مُلهمًا من الآلهة ويحمل رسالة أخلاقية لإرشاد المجتمع وإصلاحه، وكان الملك موكلًا بخلق الأمن والاستقرار والطمأنينة من خلال سن القوانين والقواعد وتثبيت الالتزام بها، فإنهم جميعًا يشتركون في هدف واحد: السعي لتحقيق العدالة. لكننا حين نضع الثائر بدلًا من الشاعر في حالتنا هذه لا نغيّر كثيرًا من هذا الثالوث سوى باستبدال التعبير بالكلمات ليصبح تعبيرًا بالأفعال. لكن مهلًا، هناك شيء آخر فعله إيونوس في النهاية، كتب وروى، وبهذا يعيد الترسيمة الثالوثية إلى أصلها.