24-فبراير-2023
ليلة واحدة تكفي

رواية ليلة واحدة تكفي

يقولون إنّ لكلّ إنسان من اسمه نصيبًا، والمقام ليس لقراءة الأشخاص، مع أنّه لا حرج إنْ لم نعزل النّص عن صاحبه، فمعمار رواية "ليلة واحدة تكفي" (الآن ناشرون وموزعون 2022) بُني في بيئة عمّانية ينتمي لها الكاتب قاسم توفيق الذّي بدا لي أنّه وُفّق في التمهيد حينما بدرتْ من راويه جُملة لخّصت الرواية مع البداية: "أمّا الخوف فقد حطّ رحاله واستوطن، وجعل سماء عمّان مكفهرّة إلى اليوم".

إذا لاحظنا شطر الجُملة بعد الفاصلة، فسندرك أنّ الخوفَ فاعل بسماء عمّان فعلته، وسماء عمّان من سماء العرب قبل أنْ تكون من السماء الدّنيا، والخوف كائن عائش بهويتّه لم يهجر بعد، براعة لغويّة استوقفتني وشهّتني إلى مواصلة نصّ لحوح.

بجملة واحدة لخّص الراوي ما تريده رواية "ليلة واحدة تكفي": "أمّا الخوف فقد حطّ رحاله واستوطن، وجعل سماء عمّان مكفهرّة إلى اليوم"

 

وإذا ما ضيّفَنا النّص، تستقبلنا وجدان الممرضة، وجدان اسم مولوج بحمولته الدّالة على مكنونات ستطفو مع لحظات التّلقي، أنهتْ مهمتها بعد الظهيرة، إذ ساعدت الطبيب الذي قام بتوليد امرأة في أول حزيران/يونيو 1967، وحاولت المُضي إلى بيتها بجبل القصور في الوقت الذّي كانت طائرات الحرب منهمكة في دك المطار ومبنى الإذاعة.

قبضْنا على زمن وأمكنة الأحداث الأولى، تعرّفْنا إلى بطلة موصوفة في النّص واضحة الملامح، صِرْنا فضوليين إلى تفكيك العنوان، ليلة واحدة تكفي؟

في التأني السلامة وفي العجلة لن نندم عل تتبع خطوات وجدان، بحيث يبدأ العنوان في التكشّف رويدًا، كان بإمكانها أن تبيتَ ليلة ثانية في المستشفى فلعلّ الطائرات تصمت والنّفوس تسكن، ولتواصل!

ثمّ نستقر في الريفيرا أين يظهر البطل ذيب، إن لم نقلْ الذئب الذي سيمسك بفتيل السرد ليُضيء لنا المكان في ليلة ليست كالليالي، هُنا احترفَ الاستماع إلى الزبائن ومراقبتهم منذ سنوات، تُرى، هل تلبّست وجدان فلسطين لتتحمّل وحدها عبء ذيب العرب في ليلة طال انبلاج فجرها؟

وإنه لمِن مناقب الإبداع الروائي أن يوظّف الكاتب ما يبثُ في نصّه حيوية تجعل المتلقي في نشاط فكري دائم؛ لأنّ من أساسيات تمرير الفكرة توفّر المُتعة وإلّا باتَ النّص ضحلًا عاجزًا عن تبليغ المقاصد. اتسعت الليلة للغناء، ولكن وجدان أبتْ ألّا يكمل الموسيقار محمد عبد الوهاب بيتًا من دعاء الشّرق، أسكتتْه بقطعِها لصوته على جناح الأثير وهو يقترب من حسم الحرب: أيها السائل عن راياتنا لم تزل خّفاقة في الشُّهب. فنحن حينئذٍ نسمع إيقاعًا آخرَ ملحونًاَ غير إيقاع الجُمل المكتوبة.

والنص حين يتخلّص من ذاكرة مبدعه له خلفيات متعددة، وهو في الأصل نصُّ خام اجتهد صاحبه ليفرزَ منه ما ينمّق رسالته ليضعها مُحكمةً بين يدي قارئه، لذلك تأتي خلال العملية الإبداعية أفكار تودّ لو أنّها ليس بينها وبين النّص خلاف، لكن الكاتب يدفعها إلى قاعة الانتظار؛ ليبعثها في نصٍّ آخر، ذلك ما صيّر بعض الأعمال تصدر في كتب تُسمى الثلاثية.. لكن في الليلة انبعث عيسى من العدم ثم اختفى، اختفى وقد أطلعَنا على ماضي وجدان لكي نستطيع أنْ نسمعها بعقولنا، ويستمر السرد والحوار بلسانين لم نذقْ معهما طعم المَلل.

لقد استطاع قاسم أنْ يُركّبّ بطلي القصة على ظهر خطيّن متوازيين، أبى كلّ منهما أن يجاري الآخر في آرائه، بحيث تركَنا – نحن القراء- نجني محاصيل الرواية عن قناعة، بحيث نرى الأسئلة تغزرُ حين الانتقال بين الفقرات، وهذه تقنيّة بات ينتبه لها الراسخون في الرواية، إذ تتسّع مساحة التّلقي خارج إطار النّص، أثناء تلك اللحظات تُعاد الكتابة في خيمة فكرية، تساعد على انبعاث وعيّ معرفيّ جديد ستكون له الإضافة مع عامل الوقت.

وحينما نتربّع الليلة، تُنعشنا وجدان بسؤال طرحتْه على ذيب وهي تحاوره، لعلّها علِمت أنّ شرودًا قد يزيحنا عن لبّ الرواية:

هل مصر والأردن غير متعاهدتين على الدفاع عن بعضهما بعضًا؟

تتجاهل السؤال وتحتبس الأفكار، لتُجيبه بسؤال:

هل تعرف اسمي؟

ويصعد السرد إلى قمتّه ليشرع في بسط الفكرة بتؤدة، يتفرقع العنوان أمام أعيننا مرغمًا إيّانا على حمل شظايا الليلة، بل مساعدة أنفسنا على الخروج من ركام الحرب سالمين، إنّ الاستئناس مع مسافر حلّ إلى جنبنا فجأة يستوجب الاقتصاد في الكلام، لأنّ معرفتنا به ظرفيّة، ورغم أننا قد نكون بحاجة إلى الفضفضة إلّا أنّ التحفظ عافيّة، ذلك ما أدركه الراوي حينما قال: ليلة واحدة لن تكون كافيّة لكشف عُمرٍ كاملٍ..

إنّ الاستئناس مع مسافر حلّ إلى جنبنا فجأة يستوجب الاقتصاد في الكلام، لأنّ معرفتنا به ظرفيّة، ورغم أننا قد نكون بحاجة إلى الفضفضة إلّا أنّ التحفظ عافيّة

ثمّ في مقهى الضيّافة، وقبل انقضاء الليلة، كان يطلّ علينا بطل آخر، تحرّك كالطيف في أفضية السرد، اتسّم بصفات لم تشبهه فيها صاحبته، إنّه القط مشمس الذّي حمّله الراوي مهمة الإرشاد لكيلا يقع اللوم على وجدان إنْ لم توفّق إلى فهم أسرار المكان، إذْ يقول: "لو أنّها تعلّمتْ من القط مشمش شيئًا ما تردّدت في فتح الخزانة، وسحب درج المنضدة، وقلب الكُتب والنّبش فيها".

وإذا تحدّثنا عن الجمال في الليلة، فقد جُعل الليل للسكينة والنهار مُبصرًا، لكننا شاهدنا ليلة كثر فيها الضجيج من كلّ صوب، إذا برع الكاتب في تزويق الفضاء المغلق، وفرّ الأمان باللغة، شدّنا إلى الاستماع لأصوات الشخوص، وفي نفس الوقت يشغلنا ما تدمّره الطائرات في الخارج، هُنا يكمن الإبداع، فالجمال ينقشع من الأشياء وهو كامن فيها، لكن مَن نظرَ ليس كمَن رأى، فالرؤية محلّها الروح التي ترى في المنام ما لا تنظره العين في اليقظة. وفي ذات الصدد نقتبس من أنوار النّص "ذائقتكِ للجمال مسألة تعنيكِ أنتِ وحدكِ، لكنكِ تحتالين على هذه الذائقة وترضخين لذائقة وضعَها الآخرون لكِ".

لقد نفثتْ نفسُ الراوي من أدرانها بالحكي، واستراح ذيب من بعض الأسى بحديث الليلة، حتّى إنّه تحوّل من إنسان قليل الكلام إلى ثرثار عندما أُتيحت له فرصة البوح، بل عندما وجد الوعاء الذي يسكب فيه ما فسدَ من دمِه، إذْ صرّح لها أنّ الخيبة الأكبر هي الخضوع لما لا نفهمه ولا نملكه ولا نحبّه.. ولم تستطع وجدان مواصلة الاستماع فقالت:

"كفى" وأجهشَت بالبكاء.

ثمّ احتلّ الصمت الريفيرا.