16-أكتوبر-2017

الفنان والكاتب منير المجيد

في رواية "قامشلو" (إصدار خاص) للفنان والكاتب السوري منير المجيد لا نرى مؤلفًا روائيًا، بل نرى فنانًا تشكيليًا يبدأ ومنذ الصفحة الأولى بنثر بقع لونية على لوحة قماشية هائلة الحجم، لوحة لا تنتهي. أحاول منذ بدأت بقراءة النص أن أرى أين ينتهي إطار اللوحة فلا أجده. أستغرب من القامشلي وفضاء رحب تنتشر فيه الألوان التي يبعثرها رسام مشاكس على قماش أزلي.

نص مثل رواية "قامشلو" هو ما تحتاجه بقايا الرقع التي بقيت من وطن سابق

نص مثل "قامشلو" هو ما تحتاجه بقايا الرقع التي بقيت من وطن سابق، أن تفهم تركيبة هذه المدينة وتعايش أفراد الأحياء على تباينهم، هو البرهان أو الدليل على أسطورة الموزاييك السوري.

اقرأ/ي أيضًا: كازو إيشيغورو: الأفكار أهم من القوالب التي تكتب من خلالها

تبدأ الإشكالية من اسم المدينة، حتى بدء استخدام الأسماء الكردية لبعض المدن كان هناك اسم لكل مدينة، والأسماء ولو تعددت فإنها لم تكن تفرق الجمع، الشام والفيحاء ودمشق.... كلمات لا تفرق، كما هي الشهباء حلب، لكن القامشلي قضية أخرى، فمنذ السطر الأول يوضح منير المجيد إشكالية المدينة "أسماؤها عديدة بعدد طوائفها: والدتي كانت تقول قامشلوكي، أحيانًا قامشلو. القامشلي نقشها الخطاط حمادة بخط الثلث الرشيق على دار البلدية. قامشلية بلهجات أخرى" ص 2.

بدون تمهيد طويل نرى أنفسنا في المدينة، يرسم التشكيلي نهر المدينة وأحياءها ومقبرتها، وينثر بقعًا لونية هي أطفال تتشاجر بالحجارة، أطفال قدور بيك يلاحقون أبناء الحي المسيحي ويجبرونهم على النطق بالشهادتين، قد يكون لعب أطفال حينها، إلا أنه توصيف دقيق لشكل عقائدي، مارد سجين في قمقمه، أفلت بعد عقود، الكاتب الذي لم يقدم نفسه بعد ككاتب المرحلة، ولم تتضخم أناه العليا شأن أصدقاء شبابه، بل يكتفي بتقديم نفسه في زاوية اللوحة في الصفحة السادسة، ببعض خطوط الحبر صيني يرسم لنا طفولته: "لم أكن، بكل بساطة شجاعًا بما يكفي لأخوض قتالًا بالأيدي واللكمات والعصي، كنت في الواقع نحيفًا ذابلًا ومجموعة من العظام غير المتسقة وضعت معًا على نحو خاطئ".

[[{"fid":"91216","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":267,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

الممتع في هذه النوفيلا، أو الرواية القصيرة، إن كنا نريد أن نصنفها من ناحية الجنس الأدبي، هو أنها ورغم شكلها كعمل روائي سردي يروي سيرة ذاتية إلا أنها لوحة من "الكانفاس"، فردها الزمان وبدأ منير بنثر أحباره وألوانه عليها، ليوثق الانتماء إلى المشهد، مراهقًا يترك بصمته على تاريخ المدينة المرسوم.

الاختزال الشعري في نص منير المجيد هو المتعة الأكبر عند قراءة "قامشلو"، فاللوحة التي بدأت تأخذ معالمها يقطعها نهر جغجغ بمياهه الطينية، النهر الذي: "حينما بنى الأتراك سدًا، كانت تشح مياهه في فصل الصيف، مخلفة كثافة طينية مليئة بفقاعات غازية وبقايا غائط بلدة نصيبين وشراغيف ضفادع مسكينة تتلمس معجزة البقاء على قيد الحياة".

بحثت مطولًا عن توصيف لنهر قليط، وعن العاصي في صيف حماة قبل عقد من الزمان، كتبت مرة نصًا من مئات الكلمات، لأوصل ما أوصله السطر السابق لقارئ ضاع بين الكلمات، فنسي النهر. الرسام بخطوط سريعة، رسم حدود المدن والدول ونهرًا وحالة بيئية وكان مقتصدًا في استخدام الكلمة، أيكون هذا هو الشعر الذي لا أجيده؟

تمر رواية "قامشلو" على بانقلابات سوريا وحكامها وأحزابها وعبد الناصر بوحدته

نرافق تقرير منير المجيد عن أسرته، بحث الأب عن الحقيقة، حتى استقرت العائلة في القامشلي، مدينة تشهد بفضل اليهود بتجارتها والمسيحيين بعقاراتها وزراعتها ودور سينماها، ولفضل بقية الطوائف والأعراق التي ساهمت باليد العاملة.

اقرأ/ي أيضًا: محمد عبد النبي: لا أريد أن يُنظر إلى روايتي بعدسة سياحية

نرى نهر جغجغ يبتلع بيت العائلة، نمسح دمعة الحزن على من رحلوا بينما تستمر ريشة الكاتب برسم ملامح العزاء، بإحساس عميق وتجرد عن الحزن الفردي ينقل لنا مأساة هي جزء من مآسي مدينة واجهت غضب الطبيعة.

نعيش معه في البيت الجديد، نرى إسطبل البيت الصغير والحيوانات التي يتم إعدامها في صراع البقاء، نرى الذعر من الموت في أعين الدواب الجاحظة، نسمع صرخات استغاثتها، ويدخل لون الدم الأحمر ليغرق في سوريالية اللوحة، لون دم قان تمتصه التربة الجافة ولا يبقى سوى بخار شفاف يتصاعد حتى يختفي، لينهي الرسام مقطع الذاكرة هذا بكلمة انتهى.

الرواية اللوحة تسعى لنقل الرائحة، يحاول منير المجيد أن يجعلنا نشم رائحة المراحيض في الصيف، الفصول بروائحها المختلفة، لكن تحفيز حاسة الشم بالكلمة المكتوبة أمر غاية في الصعوبة رغم أن المؤلف قد حث أنوفنا لتذوق روائح البهارات في دكان عزرا، ولمسنا كما شممنا روائح غبار الصيف في قامشلو، ورائحة أوساخ أقدام المصلين على السجاد المبتل.

يمر السياسي بانقلابات سوريا وحكامها وأحزابها وعبد الناصر بوحدته ووفاته بسلاسة عجيبة، ضمن وصف شيق لا يدعي تشريح مفاصل الحكم السياسي من وجهة نظر ريف ناء، بل من وجهة نظر طفل يعيش حياته وتمر به حوادث ولادة قطة وذبح كبش وعبد الناصر، بينما هو يفتح عينيه على وسعهما ليلتقط الصور التي سترسمها ريشته يوماً ما روايةً أو شعرًا. "في الوقت الذي كانت إذاعة دمشق تبث سيل البيانات الانقلابية التي أثارت ملل الناس لكثرتها" ص 57. ندر أن نجد تلخيصًا لمرحلة الانقلابات السياسية أكثر بلاغة من هذا.

يوثق منير المجيد للأحداث السياسية ليصل للنكسة، بسلاسة وبدون قصد، يوثق للصراع العربي الإسرائيلي عبر سرده لدوره في مسرحية لعب فيها دور اليهودي، يوثق للقضية الكردية وقضية الجنسية، لمغادرة اليهود للقامشلي، نحصل على المعلومة ونحن نتابع سيرة حياة هذا المراهق التي تنتهي بسفره للدراسة في "شاما شريف"، حاملًا فراشه معه.

لا تمكن كتابة نص نقدي عن "قامشلو"، لأنها ليست بالرواية المتعارف عليها

اعتدنا بسبب الصراع مع إسرائيل أن نتخذ مواقف تهدف لتشويه صورة الجالية الموسوية، والأديان التي عادت اليهودية ساهمت بتنمية هذا أيضًا، لكن منير المجيد ينصف أهل قامشلو ويرسم صورة صادقة لنسيج المدينة السكاني والعمراني، بلا تعنت لانتماء أو لدين. رسام ينقل صورة انحفرت في ذاكرة صباه بألوانه وأحباره. هي رؤيته التي قد يخالفه فيها من يرغب باسم آخر لقامشلو كـ"بيت زالين"، لكنها رؤية تسد نقصًا معرفيًا وجماليًا لدى من لم يعرف عن المدينة سوى أنها في الشمال.

اقرأ/ي أيضًا: سرير بقلاوة الحزين.. سجن تدمر بلحمه ودمه

وبالحس المرهف نفسه يُقيِّم منير المجيد العلاقة الأرمنية الكردية عند زيارته لقرية الجدود قرب بحيرة فان التي شهدت مذابح الأرمن، يختفي الشوفيني ويظهر الإنساني.

لا تمكن كتابة نص نقدي عن "قامشلو"، لأنها ليست بالرواية المتعارف عليها، وهي ليست بالسيرة الذاتية التقليدية، هي لوحة رسمها الفنان منير المجيد لمحطة ترحاله الأولى، لو رغبنا بتحليل الجمل بالأسلوب نفسه لقمنا بتوسيع النص من 120 صفحة لبضعة مئات، لا يغني نص نقدي عن رؤية اللوحة، الاختزال والشعرية في انتقاء الكلمات تجعل أي محاولة لتحليلها انتقاص من قدرها.

تواصلت مع الكاتب منير المجيد حول "قامشلو" التي اكتشفتها صدفة، أخبرني أنه بصدد إعداد نص باسم "شاما شريف" أو شآم. أتمنى أن أرى دمشقي بريشة منير المجيد، وأتمنى أن أسمع عباراته توصف هذه المدينة التي اختلف المهاجرون إليها في توصيفها، فمنهم من اعتبرها الأنثى اللعوب التي تفترس الغريب، ومنهم من نام على صدرها ملتقفًا حلمتها، يحلم بأمه في قرية نائية. أتمنى أن تكتمل الثلاثية بجزء أخير يصف فيه موطنه الحالي، حتى لو كان إكمال هذا النص الأخير يعني اقتراب النهاية، إلا أن النص لن يكتمل إلا بكوبنهاغن، طوكيو أو أوسلو، وأظن أنه سيكون الختام الأجمل لحياة مليئة بالأحداث وبالصور والألوان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "أورشليم".. تاريخ الرعب الإنساني

لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان