24-مارس-2021

الروائي عبد اللطيف ولد عبد الله

"إنّه مكانٌ بلا ظل، تسطعُ فيه الشمس طِوال اليوم وعلى مدار السنة، أرضٌ خصبة دافئة عميقة يشقُّ سطحها وادٍ ينحدر مِن أقصى الغرب ويستقر في بحيرة تتاخم غابة الحور الكثيفة".

لماذا تناسلَ الناس وتزايدتْ أعدادهم، وتغيّرتْ أشكالهم، ثمَّ ترسّختِ الحدود كما ترسخُ فكرةٌ في الأذهان؟

يبدو أنَّ هذه العبارات ألهمتْ مُصَمّم غلاف رواية "عين حمورابي" (دار ميم 2020) ؤ، فجسَّدها مباشرة صورة ناطقة بريشة فكره. وقبل أنْ أمسك الرواية عِشتُ مخدوعًا أيَّامًا، وأخالُ أنَّ قُراءً مثلي كانوا يحسبون الصورة قُبَّة تُساميها صومعة، شدَّني المُصمّم وأسهاني مُدّةً أُقلِّبُ بصَري بين العبارات الأولى والصورة، هلْ هي الظِل؟ هلْ هي ضريح سيدي المجدوب أم سيدي الحرّاق في قمّة جبل تاهرغت؟ الضريحان اللذان يتبرّك بهما أهلُ الدوَّارين ويُقيمون لهمَا احتفالًا سنويًا.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "التبرج" لعبد اللطيف ولد عبد الله.. الإزعاج بوصفه فلسفة

في الأربع فقرات المكثّفة، قدَّم لنا ولد عبد الله مجموعةً مِن الأسئلة طرحناها بأنفسنا، لماذا تناسلَ الناس وتزايدتْ أعدادهم، وتغيّرتْ أشكالهم، ثمَّ ترسّختِ الحدود كما ترسخُ فكرةٌ في الأذهان؟ ما سببُ الاختلاف والتطرُّف؟ لماذا حُصدت مئات الأرواح باسم الدين؟

ترتسمُ ملامح الشخصية الأولى وحيد حمراس في مكتبِ التحقيق أمام الضابط الذي كان يرقنُ على الآلة الكاتبة، كانتِ الأسئلة المُلقاة في شكلِ حوار أُحادي الطَرَف تهيئة لتثبيتِ قدم القارئ في الرواية، بانتْ رزانةُ الكاتب مِن البداية، فقد ركّزَ على تقديم أبطال نصّه باحترافية، غائصًا في أعماقِ الضابط، إذْ قرأ فيه تعمُّد الإذلال؛ بتكرار اسمه حمراس بدلًا مِن وحيد، ولعلّ الضابط وجدَ في الاسم اشتقاقًا مِن جمع حيوانٍ ولم يُفرِّقْ بينهما سوى الألف والسين.

وحيد الراوي يُتَّهم بتخريبِ قبر الولي الصالح سيدي المجدوب، فينفي التُهمة عن نفسه. في هذا المشهد تأثَّثَ المكان- الحجرة- مادّةً ومعنى، واستنطقَ المؤلف الجماد والمُتحرِّك. نلمسُ المقدرةَ على تجميل الخِطاب حينما يصطادنا الكاتب بصفحاتِ البداية ويرمينا في مِحبس السَّرد فنركن للنص، بدا لي أنَّه يسكبُ الحكاية بغزارةٍ لا تعترضه قاطعة، وقد سمعتُ أنَّ عين حمورابي كُتِبتْ خلال شهر على كرسي مُهَلهل تنبعثُ منه موسيقى لمُجرَّد الزحزحة، يعني أنَّ الرواية كانت مُتخمِّرة تكادُ تتعَفَّن لو لم ترَ النور. أعرفُ - كما تعرفون- أنَّ الفِكرة تُضيِّقُ بال حاملها لا يُريحه إلًّا الصدع بها بطريقته وأدواته الخاصة، ولقد تذوَّقتُ بيانًا في هذا النص جعلني مُهتمًا به كغيره من النصوص الناصعة.

أصبحنا لا نقرأ رواية معاصرة، يتّفقُ فريقٌ مِن القُراء والنُقاد على جودتها، إلًّا ووجَدنا صاحبها يُقحم الكِتاب كشخصية رمزية لها أثرها وهَدَفها، ففي الصفحة 23 نقرأ "وحين الْتفَتُّ نحوها ابتسمتْ وأخبرتني أنّها قرأتْ هذا الكِتاب أيضًا".

أصبحنا لا نقرأ رواية معاصرة إلًّا ووجَدنا صاحبها يُقحم الكِتاب كشخصية رمزية لها أثرها وهَدَفها

يسافر بنا وحيد من مكتب التحقيق إلى الدوّار الذي هجَره منذ مُدَّة، ويستغل الفرصة فيَترك البِعثة في الخيمة، وهناك غير بعيدٍ من الورشة ضريح سيدي المجدوب. تتصاعد الحبكة عندما يُعير أنيمالو النيجيري سيارة الجيب لحمراس وبعد العودة مِن الدوَّار يُلاحظ أنَّ صدَمات حلّت بها، ومع كلِّ هذا حمراس مِن غير دراية. مِمَّا جعل أنيمالو يثور خوفًا مِن أنْ يُخصم له مِن الراتب أو يُطرد مِن العمل.

اقرأ/ي أيضًا: عبد اللطيف ولد عبد الله.. أن تكتب الجريمة

فصول العين قصيرة عذبة القراءة بالرغم مِن بلوغ الرواية 326 صفحة، حتّى إقفالُ فصلٍ وفتح فصلٍ آخر استراحة طفيفة، كزفرة إنسان يضعُ أوزار العناء وشهقة استعداد لمواصلة الحَمل. ومِمَّا جَمَّل القراءة أيضًا، عناوين الفُصول الموحية إلى مَا سيُسردُ لاحقًا، كأنَّها قِصصٌ معزولة قائمة بذاتها، لكنّها جُسور للعبور مِن ألمانيا إلى الدوَّار.

اليوم الرواية مَحطَّ اهتمام الكُتَّاب الباحثين الآملين في شفط الأكاذيب، فلأَن يُسجَّل التاريخ في مُتعة خير بكثير مِن أنْ يُروى مُحرَّفًا، والرواية الرصينة تجعل التاريخ أصدق كلامًا وإنْ تخلَّلتها بعض العَثَرات، وهذا ما سيدفع المُتلقي إلى إعادة طرح الأسئلة مِن جديد رغبةً في الحقيقة.

توخيتُ أنْ أُؤَجِّل الاقتباسات، لكنَّ جُملًا مُفعمة المعاني، صفيّة الروح، عادلة الحُكم، أرغمتني على أنْ أُعجِّل ومنها: "كان والدي مِن أشدِّ الكارهين لليهود. وبعدما أصبح صهرًا لإمام الدوَّار تحوَّل كرهه اليهود إلى مرضٍ مُعدٍ. في الحقيقة لم أكن أشعر نحو اليهود أو أيّ جنسٍ بشريٍّ آخر بأيّ حقد. كان حقدي ضدّ البشاعة والظُلم في أيّ مكان وتحت أيّ سماءٍ".

بعد طول الغياب يلتقي البطل بأخيه غير الشقيق، الذي لم يتوافقْ معه أبدًا مجيد حمراس، لأنَّ أمّه زرعتْ بداخله بذرة الكُره تجاه كل مَن لا ينتمي إليها، التقاه بوجه عبوس وقد انضمَّ إلى جماعةٍ سياسية مُتطرِّفة تُنادي بالخلافة الإسلامية.

الرواية اليوم مَحطَّ اهتمام الكُتَّاب الباحثين الآملين في شفط الأكاذيب، فلأَن يُسجَّل التاريخ في مُتعة خير بكثير مِن أنْ يُروى مُحرَّفًا

عبد الوهاب قرشي اسم يبدو نظيف أحسن من حمراس، وكأن هذه الشخصية تُنبئ القارئ عن طائفة متعصّبة لأفكارها، صدّرت للعالم آلاف النُسخ مِن رجالها.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "خارج السيطرة": الجريمة بنيان غير مرصوص

ولآمجر- الجبل- وهيلين بلانك باحثة الجيولوجيا الهولندية قصّة لن أحدِّثكم عنها.

لدى عبد اللطيف كاميرا تلتقط صوَرًا ثلاثية الأبعاد، ونحن مُتلذِّذون بالنصِّ يُمرِّر بين الفينة والفينة مشاهدَ في غاية الوضوح، ثُمَّ يسلِّم الحوار إلى الشُخوص. وبالرغم مِن ضمير الأنا الذي يُحرّكها، وقد يحسبُ البعض- ومِن حقِّهم- أنَّ عبد اللطيف مُتخفٍ وراءه إلَّا أن وميض الشخوص يقول غير ذلك، وإنْ كان وزَّع نفسه بينهم بحيثُ تقمَّص أجزاءً مِن حياتهم، ومِن الصعب العثور عليه بسُهولة.

إنَّ نجاح النصوص الأدبية مرهون بقوَّة الخيال والمعرفة العميقة لشُخوصها.

ولمّا نصل الذروة نكتشف أنَّ سيدي المجدوب وسيدي الحرّاق معلمان فقط، شيَّدهما هاينريش فون مالتسان، دسَّ فيهما مخطوطاته ليتَّخذهما كنقطتي رجوع، بعد أنْ رأى أنَّ الوصول إلى مكان الآثار عسير؛ لصعوبة التضاريس. نفس العمَلية قامت بها فرنسا في بعض أرياف الجزائر، ووصل بها الطغيان إلى أنْ دَفنتْ كلابًا فأقام لها بنو آدم الولائم. أجَل، عندما تعرفُ نمط عيشة شعبٍ لا يُفكِّر بتاتًا، فإنّكَ تستطيع أنْ تخلقَ له أفكارًا يتشبَّث بها، بلْ يتعصَّب لها، ومستعدٌ للقتال لديمومتها.

"لقد كتبَ هاينريش في روايته مُدخِّنو الحشيش بتفنُّن في وصف الحشيش وتأثيره على عقل الإنسان وروحه، فكيف يُعقل أنْ يتمتَّع بكلِّ تلك الخِبرة الحِسيَّة بالحشيش إذا لم يكن هو نفسه مُدمنًا؟! استغلَّ معرفته بالمُجتمع المغاربي وبني ضريحين لا يُمكن المساس بهما".

حضرتِ الشعوذة كممارسة مشينة يقتات منها الحمداوي وأغلب ضحاياه النساء، بموافقة أزواجهن، ينهال عليهن لطمًا، ويُتمتم على رؤوسهن ثمَّ يبصق لهن في قارورة ماء وينصحهن بالشرب والغسل.

في رواية عين حمورابي، تحضر الشعوذة كممارسة مشينة يقتات منها الحمداوي وأغلب ضحاياه النساء

في المقبرة التي باتتْ فيها ذات ليلة، تحكي نجاة عزرا أمام وحيد كيف تدهورتْ صحَّة زوجها إلى أنْ مات وجاء في الحوار: "هل تعرف.. جُبناء الأمس يتكلَّمون ويدينون هروبي مِن الجحيم، أنا الزوجة التي خدعتْ زوجها وهربتْ مِن حُرمة البيت إلى الشارع. آه لو تعلم".

اقرأ/ي أيضًا: آسيا علي موسى.. ملتقى الأصوات المهمّشة

لقد عاد ولد عبد الله إلى تاريخ بابل بالعراق، حيث النظام الملكي، آنذاك بابل تستمدّ قوَّتها مِن القطاع الزراعي، لأنَّها تقع على نهري دجلة والفُرات، وأسقط فترة حكم حمورابي على نصِّه، فاتَّخذ مِن الضريحين سيدي الحرَّاق وسيدي المجدوب والنهر القاطع بينهما مسرحًا لسير الأحداث، فالفكرة صائبة إلى حدٍّ بعيد، ومَنِ اطلّع على النصِّ يكون قد اكتشف ذلك. وهذا الإسقاط أقرب للحقيقة منه إلى الخيال.

القتل، وبأبشع الطُرق، جريمة تُرتكب مِن حين إلى حين. وُجِدت جثَّة مُلقاة في دربِ الصائغين، منحور صاحبها مِن الوريد إلى الوريد، منزوعة القضيب، يقولون أنّه يُستعمل في طقوس سحرية، أمَّا الخصيتين فقد وُضِعتا في فم الضحيَّة.

يقعُ وحيد حمراس في قبضة الدرك لمَّا اقتحموا عليه الباب وهو في بيت نجاة عزرا، أخذوه للتحقيق في قتل ثلاثة أشخاص، طلبوا منه الاعتراف مقابل تخفيف الحُكم، وإلًّا سيمضي المؤبد في أسوأ السُجون، والغريب في الأمر أنَّ الضحايا قُتلوا بنفس الطريقة في أزمنة متقاربة جدًا.

"ك" شخصية أخرى لا تتحرك كثيرًا، يعبر مع وحيد الغابة الكثيفة في الظلام، الخفافيش والبوم والذئاب والخنازير، تترامى أصواتها مِن بين أشجار الصنوبر المتشابكة، ومع قطع الخطر وصلا إلى سيدي الحرَّاق ليحفرا عن المخطوط، وعلى ضوء الشموع شرعا يتناوبان على حفر القبر الذي بناه هاينريش.

يخطب الحمداوي في الناس عندما ثاروا على حفر القبر، وأخبرهم أنَّه ليس عنده ما يخسره أو يربحه ما دام ذلك لا يُعوِّض عن خسارتهم شيئًا، وأنَّه لم يهتم يومًا بأمر الولي الصالح كما لم يهتم بالحياة في الدوَّار، وأثناء خطابه، سمع همهمة، ثُمَّ صوت ينعته بالساحر والزنديق، ثُمَّ تراشقٌ بالكلمات، حتَّى تحوَّل الأمر إلى زوبعة عنيفة. رموه بحجر أصاب كتِفه على إثر كلمة كذَّاب، ثمَّ قضيبًا خشبيًا أدمى صدغه، وانهالوا على نجاة عزرا بالعصي وهم يُكبِّرون باسم الربّ، حتَّى غادرت جسدها الروح.

يُجاهد الحمداوي لفتح إحدى عينيه ويُصرّح لوحيد: "أنا والدك، وأمك مدفونة هنا في مكان قريب، ابحث عنها".

يُباغت وحيد- في المسجد- الإمام عبد الوهاب قرشي ويسوقه بالبندقية إلى قاعة الوضوء وهناك يقول له: "أنتَ أكبر خائن في كلّ ما حدث، لا يُمكن أن تكون محايدًا أبدًا، فهذه أكبر أكذوبة اخترعها الإنسان لينقضَّ على غنائم الخاسر بعد محالفة المُنتصر. كيف يُمكن أن تكون مُحايدًا وأنت تُشاهد القتل والاغتصاب؟ ثُمَّ تدَّعي الفضيلة والعِفَّة".

وأمام فوهة البندقية والضغط يُصرِّح عبد الوهاب قرشي لوحيد أن أباه اكتشف خيانة أمّه بعد سنوات من ولادته، وأراد أن يتخلَّص منها مِن دون أنْ يُثير أدنى اهتمام، وهذا ما جعله يتنازل عن اتهام الحمداوي أمام الملأ. وذات صباح وضع يده على وجهها ودفنه داخل الفراش حتَّى توقَّفت عنِ الحركة، ووجد الزبير حلًا للتخلُّص منها برميها في البئر.

قتل وحيد الحمداوي فاندلقتْ أحشاؤه وجحظتْ عيناه وكأنَّه لم يُصدّق ما حدث وهرب وحيد، وتبعه المُصلُّون بالعصي والأحجار، لأنَّ صدى الطلقة كان قويًا، لكنَّه لجأ إلى الثكنة.

في قسمها الأول تميل رواية "عين حمورابي" إلى التنقيب في التاريخ الجماعي أما في الثاني فتصبح رواية بوليسية

ولأنَّ الكاتب كان يرى النهاية بوضوح، وهذه نُقطة مهمّة قبل البدء في سرد أي رواية، يقول في الفصل المُعنون بغار الضبع: "كُنتُ أقودهم إلى حيثُ أريد وهم منساقون عبر خيطٍ وهميٍّ إلى نهايةٍ كنتُ أرى معالمها بوضوح".

اقرأ/ي أيضًا: رواية "علاج شوبنهاور".. المرض كتأمل في فلسفة الحياة

"عين حمورابي" رواية مائلة إلى التنقيب في التاريخ الجماعي في شقِّها الأول الذي لم يُسجَّل بذكاء، فأعاد الكاتب تدوينه بمُتعة ودهاء، وفي الشَّق التالي نحسبُ أنّنا أمام رواية بوليسية مِن كثرة تكرار الجريمة، ومَن أراد عموم الإفادة فعليه بالقراءة ولن يندم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جنان جاسم حلاوي.. غرباء يشهدون لحظات الحرب الأخيرة

علي المقري في رواية "بلاد القائد".. بارانويا الحاكم العربي