01-نوفمبر-2017

إبراهيم الجبين وروايته عين الشرق

عن الرواية وحولها 

"عين الشرق" (المؤسسة العربية للدراسات، 2016) للكاتب السوري إبراهيم الجبين رواية من القطع المتوسط، غلافها للفنان المبدع يوسف عبدلكي، بينما صورة الغلاف الخلفية للشاعر نوري الجراح، وهو غني عن التعريف، كل هذا يعني مبدئيًا أنّ الكاتب "واصل" ومسوّق له داخليًا. للرواية عنوان مزدوج يذكرنا بالوسواس القهري لدى كتاب سوريا بإعطاء عنوانين للرواية، فنشعر بأن الكاتب غير مقتنع بعمله فلا يكتفي بعنوان، بل يردفه بعنوان آخر: "عين الشرق.. هايبرثيميسيا 21". العنوان الثاني يتعلق باسم مرض نادر حالة الهوس بالتفاصيل.

"عين الشرق" كوكتيل من حياة الكاتب مربوط بذكريات الطفولة والشباب، نصوص قصها وبعثرها وأدخلها ببعضها، لتكون الرواية

تتألف رواية "عين الشرق" من عدة أقاصيص بثيمات مختلفة، بعضها تخيلي وبعضها واقعي، التخيلي يأخذ شخصيات من الحاضر أو من التاريخ، والرابط الوحيد بين الشخصيات هو الأديب ومدينة دمشق.

اقرأ/ي أيضًا: الحرب الأهلية اللبنانية في خمس روايات

يوسف عبدلكي، مظفر النواب، محمد البخاري، برهان البخاري، مصطفى الحلاج، بشار العيسى، هائل اليوسفي، وغيرهم من مثقفي دمشق يظهرون بأسمائهم في رواية "عين الشرق". شخصيات أخرى تظهر بأسماء مستعارة ليفكر القارئ فيمن يمكن أن تنطبق عليه مواصفاتهم عماد، ناصر، علا، صاحبة صالة العرض ذات الساقين النحاسيتين، وشخصيات أخرى.  شخصيات ترد بأسماء مستعارة لكن المقصود منها معروف للعميان كقدري جميل، بدر الدين الشلاح. هسام هسام الشاهد في قضية مقتل الحريري الذي يتحرش بالكاتب الصحفي في دمشق ويطارده ليخبره بالقصة الحقيقية التي لم يقلها لأحد! يقول الكاتب في الصفحة 336 من روايته "لكنني كنت قد أخذت منه كل ما أريد؛ شهادته التي لم يقلها علنًا".

شخصية الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ترد في مراحل ثلاث تخيلية، عند وفاة ابنه البكر، وفي بريطانيا عندما قرر طومسون وأشباح غريبة تحكم العالم أن يكون الأسد رئيسًا لسوريا، ولحظة النزع الأخير التي يقول فيها بأنه أتاتورك... أو الله... ويحاول الانتحار لكنه لا يتمكن. بالإضافة إلى شخصيات أحياها الكاتب من التاريخ ليُقَوِّلُها ما يريده هو.

في الصفحة 150 من رواية "عين الشرق" يقول إبراهيم الجبين: "لا يسألني أحد عن الحدث، فالحدث في هذا الورق هو الحركة الكبيرة للوحة الرمل في تكوينات الشام، لا حركة الشخوص". أتفق معه مبدئيًا في توصيفه للرواية الذي أتى في منتصفها وكان يجب أن يكون في مقدمتها، ليسهل على القارئ متابعة النص.

القصص في "عين الشرق" هي: حكاية ناجي بائع اللوحات الزيتية في مدخل التكية، قصة ألويس برونر، قصة إيلياهو كوهين، قصة حافظ الأسد على سرير الموت، قصة أخاد يهودي من دمشق عاد، لا أعلم تخيليًا أم فعليًا ليسترد كنوزًا مخفية في البيت في حارة اليهود وليحاور الكاتب، قصة مرض مظفر النواب، قصة موت مصطفى الحلاج، قصة مهندس سيئ صمم ساحتين في دمشق، قصة مؤلف مسلسل حكم العدالة... إلخ.

أسلوب الروائي إبراهيم الجبين يعتمد على مزج هذه الحكايات بلقاء تخيلي مع ابن تيمية، وابن عربي، وعبد القادر الجزائري... بمعدل 200 كلمة على الأكثر من كل حكاية ثم الانتقال لحكاية أخرى، وأحيانًا يستخدم واحدة من الحكايات مبعثرة زمنيًا ليرهق القارئ أكثر.

كوكتيل من حياة الأديب مربوط بذكريات الطفولة والشباب، نصوص قصها وبعثرها وأدخلها ببعضها، لتكون الرواية.

انتقادي الأهم على رواية "عين الشرق" يتوضح بعد قراءة هذا المقطع في الصفحة 123: "لكن عبد الناصر أمر رجله الخطير محمد نسيم، بتنفيذ عملية عاجلة لتهريب السراج من سجن المزة إلى لبنان ثم إلى القاهرة، بقيت المخابرات السورية بعده، في تلك الأيام، جهازًا بلا مخالب، ضعيفًا هشًا وبلا خطط. وصل إلياهو إلى دمشق كانون الثاني من العام 1962 بين توقيتي الانقلابين، وبعد هروب السراج، ليعيش اليهودي الشرقي في ذلك الفراغ الأمني الرحب الذي يمكنه من فعل ما يريد بلا أي معوقات". أعيب كقارئ على شخص معارض أن يعتبر أن السراج كان مكسبًا، وأن يعتبر أن رحيله أدى إلى انفلات أمني، فيتباكى عليه. ربما كان على الأديب أن يبرز أن السراج كان إحدى بدايات الكارثة.

إضافة إلى اعتماد إبراهيم الجبين على روايات ناجي التي يعتبرها حقائق ليدين بها أدونيس، لكنه بنفس الوقت لا يتقزز من صداقته مع ناجي الذي يصرح بأنه كان مسؤولًا عن إطلاق رصاصة الرحمة على العديد من المعارضين السوريين.

من المعيب اعتبار أن عبد الحميد السراج كان مكسبًا، وأن يعتبر أن رحيله أدى لانفلات أمني، كما في رواية "عين الشرق"

وأعيب العنصرية التي يتكلم بها الكاتب إبراهيم جبين عن رشيد، في الصفحة 92: "رشيد أراد أن يواصل انتقامه من بداوته وبيئته المتخلفة، من خلال كتاباته التي كانت تشوه الشمال السوري".

اقرأ/ي أيضًا: أصل العالم.. رجل قتلته امرأة نصف عارية

ونفهم في مكان آخر من الرواية المقصود بتشويه الشمال السوري حيث يقول معسرتي: "هذا كائن مشوه، هل يعقل أن تكون أكبر فتوحاته في رواية من رواياته، سرده متباهيًا، للكيفية التي كان يمارس بها الجنس مع الحمير في طفولته وصباه في قريته البعيدة؟".

عين الغرب عن كل عيب راضية

عين الغرب عن كل عيب راضية، هذا ما قرأت بين سطور ما كتب عن الكاتب وعن الرواية في ألمانيا، أو ما نزه ناقد إسلامي... أو دبجته صحفية لقناة تلفزيونية ألمانية. الناقد الأدبي د. أحمد الهواس الذي يعرف عن نفسه في ذيل المقال "كاتب وإعلامي سوري، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية"، تناول قضية تنزيه ابن تيمية واحتفى بها، وعرض للرواية لينكل بإيكوشار وليقارن الجبين بدان براون، وليعتبر النص ليس رواية فحسب بل أكثر من هذا.

لكوني اقتنعت بكلام الهواس تمثلت كتب دان براون وكنت أرى بعض الكلمات تلتمع مضيئة أثناء تصفحي الرواية للمرة الثانية، أحصيت بعض ما التمع مما لم يسرني كمسميات طائفية مثل: سألني أحد القضاة العلويين، أو بائع الخمر المسيحي.على سبيل التسلية لا أكثر ولا أقل، أحصيت كم مرة ورد علوي، مسيحي، يهودي، مسلم، سني، شيعي، اسماعيلي، درزي. ولفت نظري أن الأرقام لا تستحق الذكر إلا في علوي 38 مرة، ويهودي 49 مرة.

المذيعة الألمانية تناولت قضية ألويس برونر وأن الكاتب التقاه في دمشق، وتحدثت عن أن النص يتم البحث له عن مترجم لنقله للغة غوته وشيللر. السؤال: هل يعتقد الكاتب أن قصة إلياهو كوهين كما وردت يمكن أن يتم الحديث عنها في التلفزيون الألماني؟ برونر لا يطالب بجثمانه أحد بينما عائلة كوهين تنتظر لحظة أن يسمح لها بدفنه. وقبل التلفزيون، لا ننسى أن الشيخ سعد الحريري سيدفع ملايين ليعرف الحقائق التي اصطفى الشاهد هسام هسام الكاتبَ عن خلق الله ليخبره إياها طيلة 7 ساعات. الأسلوب التسويقي الذي يقوم به الأديب لعمله مدهش، علينا أن أتعلم منه.

الصانع الماهر ليس مسوقًا جيدًا، لتسوق اليوم عليك أن تقدم للمتلقي ما يهمه، داخلياً وبالوقوف في الصف الثوري يكون المرء قد حصل على مصداقية خارجية تفوق المصداقية المحلية، لكن توابل برورنر وكوهين.. هي دعايات موجهة لألمانيا وللكيان العبريّ "الشقيق"، وبهارات راحيل والواتس أب بين إسرائيل والأديب لا يختلف عن زيارة تل أبيب التي قام بها معارض شهير، وقصة هسام هسام هي استعراض مفاتن أمام الأشقاء في لبنان.

حديث عائلي جدًّا

بينما كنت أقرأ الرواية دخلت زوجتي ونظرت لي بلؤم:

- شو عم تساوي؟
- عم بقرأ رواية لكاتب سوري.
- أي صفحة وصلت؟
- صرت بآخرها، صفحة 302.
- ترجملي شو مكتوب هون؟

طبعاً زوجتي الخبيثة أشارت لفقرة: "حينها قلت لعلي لنصنع فيلمًا عن إسماعيل العمود.. تحمس علي. كتبت الفيلم في يوم واحد"، وتابعت الترجمة حتى وصلت إلى جملة "ذهبنا إلى التصوير صوّر علي الفيلم في يوم واحد أيضًا".ترجمت الفقرة، فابتسمت حرمنا المصون... ابتسامة أظهرت أضراس العقل ثم قالت: "وعم تسألوا ليش هيك صار ببلادكم؟ قوم جلي الجليات اسمها المي سخنة".

تقريظ واجب

هناك بوارق جميلة في رواية "عين الشرق"، فعندما يصف الكاتب إبراهيم الجبين مجانين مدينته دير الزور، تشعر بصدق وبعين ثاقبة تختزل تاريخ المدينة وعلاقاتها بمجانينها، بعض لحظات الصدق في تناول الأمكنة الدمشقية "اللاتيرنا" و"الريس" و"نادي العمال" و"فريدي"... تشعرني بصدق اللحظة وترميني لتذكر أمسيات دمشق، ثم تأتي فقرة تنزعني من ذكريات سوريا لأعود لواقع الكتاب.

يقولون إن السمكة تضع ألف بيضة بالدقيقة وهي صامتة فيكون بيضها هذا هو الكافيار الغالي

هناك صورة رائعة أخفاها الكاتب إبراهيم الجبين ببراعة في الصفحة 228 حيث يقوم كاسر بكتابة نوطة موسيقية لصوت أزيز النيونات: "لا شك لدي بوجود نظام خاص بالفساد، يتحكم بكل شيء، يمكن قراءته حتى من خلال صوت النيون".

اقرأ/ي أيضًا: عبد اللطيف ولد عبد الله.. أن تكتب الجريمة

عندما قرأت الفقرة نسيت غضبي على الكاتب والكتاب، وشعرت بأن الساعات لم تضع بدون جدوى، رغم أن قراءة الرواية مرتين وتحليلها وكتابة هذه الأسطر كلفتني يومًا مضنيًا.

- يوم؟
- غيرك يقوم فيه بكتابة فيلم وآخر يصوره.
- وجمهور يشاهد الفيلم في يوم؟
- ويعجب به لمدة يوم.
- وينساه آخر اليوم.

زوجتي دائمًا محقة. غوتة بدأ حياته الأدبية بنص فاوست المبدئي "أور فاوست"، واستمر في الكتابة بالنص نفسه طيلة حياته، لا يوجد إبداع في يوم. هذه علاقة عابرة مع الكلمة واللوحة والصورة والحدث. الفن يتطلب أكثر من يوم. وطالما بقيت الحياة الثقافية في بلادنا تعتمد مهلة اليوم فإنها ستبقى شبيهة بالدورة الحياتية لذبابة الخل... تستمر لمدة يوم، وإن ماتت فهي لا تصبح مستحاثة... وحتى جثمانها لا تنبعث منه رائحة.

لا تنه عن خلقٍ!

"الولد إن بار تلتينه للخال"، هكذا يقال في دمشق، وصبحي حديدي كما فهمت من نص الرواية هو الخال والأنموذج الذي يتمنى الشاعر الرسام الصحفي الإعلامي الأديب الروائي المعارض الصحفي أن يحذوه. في الصفحة 267 كتب المؤلف: "كثيرًا ما وصف الناس خالي صبحي بأنه متعجرف ومتعال، وكان هذا صحيحًا، لكنه لا يعود فقط إلى ثقافته الرفيعة. بل إلى جذور عائلته التي ألفت التعاطي مع الأشياء والأشخاص بهذه الصورة، فقد كان جدي لأمي موسى الحاج حديدي هو الحاكم العسكري لتلك المدينة، دير الزور". 

ينتج الكاتب عادة بدافع الإنتاج الأدبي وليس بدافع التسويق أو التفكير في الترجمة

لا يسعفني الكلام للحديث عن هذه الفقرة لكني أحب أن أورد بضع نقاط للأديب: أنا مع الناس الذين ذكرتهم وأنا والله معك في هذه النقطة. لو كنت مكان خالك فإما أن أقاضيك، أو أتبرأ منك.. "فظحتنا". يا سيدي لا عتب على أبناء الضباط والمسؤولين السوريين تعاليهم وغرورهم، إن كان نسل موسى الحاج حديدي الملقب بأبي عاشق والذي بنى هرزته "هرزة أبو عاشج" في الفرات عام 1850 أي قبل 167 سنة ما زال أحفاد أحفاده يمشون بالعرض... فلا بأس أن يدلل أبناء حكام اليوم أنفسهم وأن يتعاطوا مع الأشياء والأشخاص بتعجرف وتعال، ولهم يا سيدي فيكم وفي جدكم أسوة حسنة.

اقرأ/ي أيضًا: "مشاءة" سمر يزبك

بيوض السمكة وبيضة الدجاجة

رواية "عين الشرق" مبنية أسلوبيًا على عدة قصص يسرد الكاتب فيها حدث مع شخصية ما، حكاية يمكن سردها على القهوة أو في بار، لكنها لا تصح أن تكون رواية. يقولون إن السمكة تضع ألف بيضة بالدقيقة وهي صامتة فيكون بيضها هذا هو الكافيار الغالي، بينما تضع الدجاجة بيضة فتبدأ بالنقيق ولا تكف عنه ليل نهار، يقارن البعض هذا بذاك فيقرون أن العالم كله يأكل بيض الدجاج بينما يندر من يتناول الكافيار.بعض الأدباء من فصيلة الدجاجيات، وحتى ديوكهم بياضة. ولو كان النقيق الذي يتبع الرواية هو الدعاية والتسويق الصحيح لها. فإنه حتى ولو سوَّق المرء لأدب كبيض الدجاج، وخدع العالم بنقيقه فإن التاريخ هو الحكم. والكاتب ينتج عادة بدافع الإنتاج الأدبي وليس بدافع التسويق أو التفكير في الترجمة.. هذه أمور تأتي لاحقًا. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

كُتَّاب السلطان

خمارة جبرا.. وحول القاع الدمشقي