20-سبتمبر-2021

رواية "عالم 9" (ألترا صوت)

ألترا صوت – فريق التحرير

صدر عن "دار الآداب" في العاصمة اللبنانية بيروت، حديثًا، رواية جديدة للروائي الفلسطيني محمد جبعيتي، بعنوان "عالم 9"، وهي ثاني رواياته بعد: "رجل واحد لأكثر من موت" (الفارابي، 2017)، و"غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" (الآداب، 2018).  

تدور أحداث الرواية في بلد متخيّل يعاني حروب ونزاعات أهلية مختلفة، يضعنا الروائي الفلسطيني في أجوائها من خلال حكايتين متوازيتين ومتقاطعتين، تشتبكان مع إشكاليات الجسد الأنثوي والحرب واللجوء، وهما: حكاية فتاة خلاقة تواجه قسوة العالم بالألوان. وحكاية والدتها التي هربت بها من جنوب البلاد، أثناء الحرب الأهلية، إلى شمالها بحثًا عن حياة أفضل، لتعاني بعد وصولها من العنصرية ضد اللاجئين.

ننشر هنا مقطعًا من الرواية.


مدينة yes، حلم "9"

السبت 13 تشرين الأوّل، XXAX

00:3 صباحًا

نهضت من السرير بعد نوم ثقيل. دنوت من النافذة. تأملت المنظر الماثل أمامي: ناطحات سحاب زجاجية، وبحر شديد القتامة. yes مدينة صاخبة. الدخان يتصاعد من المصانع. غربان كثيرة. أوساخ متكدسة بجانب الطرقات. الضجيج. أناس يركضون في كل الاتجاهات. ارتديت بنطلون جينز وبلوزة عادية، وحذاءً رياضيًّا. لم أقف أمام المرآة، خفت من رؤية شيء لا أرغبه. نزلت الدرج بسرعة حتى وجدت نفسي في شارع مزدحم بالسيارات. رأيت المنظر ذاته: متاجر ضخمة، مطاعم وجبات سريعة، شركات مشهورة، كاميرات فوق إشارات المرور، أجهزة مراقبة، رايات الحزب الحاكم، شعارات سياسية، تمثال الزعيم ببزته العسكرية، شاشات عرض كبيرة، تبث ألعابًا واقعية، دموية، لأناس يقتلون بعضهم. مدينة أشعر فيها أني حيوان مدجّن في خيمة سيرك، سيد واحد فوق الحلبة، والجمهور مهمل في العتمة.

مشيت كأنني منومة مغناطيسيًّا، لا أدري إلى أين! بدت شوارع yes غريبة، ضباب قذر، الناس أكثر تجهمًا، يعبرون كالأشباح، يتلاشون بسرعة. مدينة قاتمة، رماد في كل مكان، الأزقة طبقات نفايات وغائط بشري. مدينة فقّاسة للصراعات، بين الحاكم والمحكوم، بين الرجل وزوجته، بين الوالدين وأولادهم، بين الكلاب والقطط. البعوض مسعور، يغزو البشر بوحشية. كانت حالة تشبه فقدان الإدراك، أو الحلم بالمشي، أو المشي في النوم. كنت كما لو أنني تناولت عقاقير مهدئة، أو تعاطيت المخدرات. أهرب إلى ذاتي. أهرب إلى اللا شيء. الأماكن ذاتها، الأشياء ذاتها، الخدمات ذاتها. رأيت حمامة تدور حول نفسها، دائخة، تقوم بحركات هستيرية. الحيوانات في مدينة yes تعاني من لوثة الجنون. تلة المشاهير التي لا يصل إليها غيرهم غارقة في الكحول والكوكايين. الجنة في الأعلى، نراها من بعيد، ولا نجرؤ على الاقتراب منها.

دخلت مطعمًا يبيع الوجبات النباتية، أكلت في دقيقتين، وجبة فردية سريعة التحضير. المهم الشعور بالشبع، لا بلذة الطعام. لا وقت أضيعه في الجلوس إلى مائدة. ألهث وراء الزمن دون جدوى. أجدني دائمًا متأخرة. الحياة زئبقية تتفلت من بين أصابعي. شربت كوب قهوة في مقهى مقابل البحر، ثم مررت بالسوق الشعبي. ميدان كبير يعج بباعة الخضار والفواكه، والأدوات المستعملة، والتحف القديمة. يتحول في ساعات الليل لساحة رقص، تنتهي بحفلة مجون على ضوء الإنارة الخافتة. المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالأمان، في مدينة تكرهني بسبب لون بشرتي. أحب مراقبة المراهقين، والعشاق المتعانقين، والفنانين المتشردين، والبوهيميين المنتشين، والرجال الملونين القادمين من الأحياء الفقيرة، والمتمردين من الأعراق المنبوذة بأوشامهم، وجنونهم، متحررين من أثقال العالم. يتكدس المهاجرون بالمئات، يجلسون على قارعة الطرقات، يبيعون البضائع، يشربون، يتبادلون الحكايات عن الفاقة، وكيفية عبور الحدود في شاحنات الخنازير. ملاحقات الشرطة للمهاجرين غير الشرعيين، وقلة الأجور. يستعيدون الشهور الأولى، الاختباء في المزارع والمقابر، النوم في أنفاق المترو، الماء الملوث، الخبز اليابس. محاولات الحفاظ على تقاليدهم، في حين يأملون باندماج أبنائهم ونيل بعض الحقوق.

 أتوه تحت جلدي، أشعر أني أركض في غابات كثيفة، وطرقات ترابية لا حصر لها، أندمج مع الطبيعة الصامتة، هاربة من معارك جسدي الخارجية. لون بشرتي يضعني تحت تهديد متواصل، خوف متراكم من العصابات العنصرية، أعيش في غيتو، هامشية، لا يراني أحد غير الهامشيين أمثالي. بعد خروجي من السوق، واجهت حشد سيارات مشيت خلاله، إلى أن وصلت زاوية شارع حيث موقف باصات. شعرت بالبرد ورغبت بالمطر. السماء كئيبة، كنت مستاءة. انتظرت خمس دقائق، عشرًا. الباص تأخر عن موعده المحدد. ما فعلت غير النظر إلى السماء والتفكير. غيمة سوداء تعلو المدينة تحجب ضوء الشمس. لا أدري كيف يعيش الناس وسط هذا التلوث. لا هواء نقي، لا ضوء. يغطون وجوههم طوال الوقت بمناديل ورقية أو كمامات. لا يخرجون إلا في نهاية الأسبوع، لا يجلسون في الحدائق، لا يعرفون غير العمل الذي يمتد طوال النهار. العمل وحش أسطوري يبتلع حياتهم. إن خرجوا، لا يلتفتون حولهم. يغرسون عيونهم في شاشات أجهزتهم. الخوف. الاغتراب عن الواقع. يقفون في طوابير أمام الدوائر الحكومية.

 الخروج ليلًا مغامرة كبيرة، يطوف السكارى ومدمنو المخدرات في الشوارع المظلمة، يلاحقون الفتيات، شاتمين كل شخص يقابلونه. شجارات عنيفة على أبواب الملاهي الليلية، صراخ نساء يرتفع من أماكن مهجورة، صفارات سيارات الشرطة والإسعاف، الزحام، موسيقى صاخبة، تأوهات بنات الليل، بكاء، تتحول المدينة إلى جوقة أصوات. وأنا اعتدت التجوال، المشي آلية تفريغ، من دونها أنفجر. أمشي كيلومترات. أفكر، أتذكر، أغني، ألعن، أرتجل حوارات فردية، أتخيل شخصيات، أخترع حكايات/ متاهات. كل ما قاله عمدة المدينة، لم يخرج عن كونه شعارات جوفاء: "مدينة yes خالية من التلوث"، "مدينة yes نظيفة وخضراء"، "مدينة yes تحترم كبار السن والأطفال"، "مدينة المساواة". كأن كلماته مفاتيح عالم يوتوبي مغسول بالضوء: عالم الحرية والإخاء. بعد فوزه في الانتخابات، تنصل من وعوده، وتبرّأ من مشاريعه النهضوية، تسانده الصحافة مباركةً أعماله، مهما بدت سخيفة وعديمة الجدوى.

سمعت فجأة صوت رنين قادم من كابينة هاتف عمومي. رنينه الرتيب دعاني إليه بسحر لا يقاوم. حاولت تجاهله، لكنه واصل الرنين. كنت أحتاج إليه. رأسي فوضى أفكار. الرنين دعوة حماية. وجدتني دون وعي أمشي باتجاهه. لماذا استسلمت؟ جذبني بقوة غامضة، كنت مستعدة لملاحقته حتى نهاية الأرض. خطواتي بطيئة، مترددة، خائفة من مجهول يبدو قاسيًا. عندما رفعت سماعة الهاتف، وقربتها من أذني، سمعت صوته. كان هو، بصوته العميق، الهذياني، المبحوح من كثرة التدخين. ارتكزت على حائط الكابينة الزجاجي. خانتني قواي. رجلاي ارتجفتا. كدت أسقط. حلقي جف. جسدي التهمته الحرارة. أن يتصل بي أمر لا يمكن تصوره. أمرني بالحرف الواحد. اقتلي، واحرقي الكتب. لقد حان الوقت. أنتِ المخلّصة. رسولتي إلى البشرية. أُغلق الهاتف. ريح عاتية عصفت بي. الجو عزفَ لحنًا جنائزيًا. البرد.. فتحتُ عينيّ عن آخرهما. تنهدت. أخذت نفسًا عميقًا. حدقت في السقف ورحت أفكر. الأحلام على هذه الشاكلة، ليست أقل من تنبؤات مستقبلية.

 اتكأت على حافة السرير، ونظرت إلى الخارج عبر النافذة. ضغطت على صدغيَّ، وتذكرت التفاصيل. رحت أفكر بما جرى في الأيام الماضية. يحاصرني ما لا أفهمه. رفعت يدي في الهواء، نظرت إليها. كانت ترتعش. لا أشعر بها، كأنها ليست لي. تسلّل من عالمه إلى عالمي بعد أن هدم الحدود بين الواقع والخيال. وحده الحلم قادر على التقريب بين العوالم. لماذا يريدني أن أقتل؟ لماذا يريد إحراق الكتب؟ لم يكن هناك مكتبة واحدة في البلاد، بعد أن أصدرت الحكومة أمرًا بحرق المكتبات. أصبح اقتناء الكتاب جريمة يعاقب عليها القانون. كانت الشرطة تفتش البيوت والمقاهي بحثًا عن الكتب، تحرقها، وتنصب لأصحابها المشانق.

ظل الحلم يتكرر لينذرني بقرب وقوع شيء ما، نهوض فتأمل فخروج، ثم ذلك الاتصال الغريب من صوت بلا حياة. كنت أترقب حضوره. وإن غاب يعتريني الذعر، وتأكلني الأسئلة. حلم يراودني، يعود في كل مرة، أكثر وضوحًا. كيف أفك رموز الحلم؟ ما الذي ينبغي فهمه من المتصل؟ لمَ اختارني لتنفيذ مهمته الغامضة؟ ما الحكمة؟ انتفض كل شريان في جسدي، وشعرت بدمي يكاد يتفجَّر، فأخذت أرتجف مرتعبة. ركضت لأفرغ طاقتي، أهدئ جنون رأسي. غاب صوت الذي أخافه. تلاشى في رأسي، ليتشكل أمامي، على هيئة شيء لا أجهله. كانت صورة أبي الميتة التي ألقمتها للقمامة قبل سنوات. سحبتني إلى داخلها على شكل دوامات من الضوء والصوت!

 

اقرأ/ي أيضًا:

العدد الثالث من مجلة "ماكو".. عن الفن النسوي وتحولاته

المجموعة الشعرية "الموت رقصًا".. لا يحيا الإنسان إلا بالحب والحرية