15-مارس-2021

أيمن مارديني وروايته

إن الانطباع الأول الذي سيستوقف قارئ رواية "خيوط الانطفاء" (رياض الريس للكتب والنشر، 2020)، للكاتب السوري أيمن مارديني، هو أن الأخير أراد أن يروي عدة حكاياتٍ ضمن مسارٍ واحد، وحول فكرةٍ واحدة، وبشكلٍ تكون الحكايات عنده متماسكة البُنية، لا تشذ عن المسار الذي رُسم لها. أما الانطباع الأخير، فهو أن مارديني فشل في تحقيق ما أراده تمامًا.

لا تحتاج "خيوط الانطفاء" إلى من يجيب على أسئلتها، وإنما لمن ينقذها ويُعيد لملمتها عبر منحها قصة مقنعة وحبكة متماسكة

وإذا كان الانطباع الأول خاطئ، فإن الأخير صحيح، لأن مارديني، وبغض النظر عما أراده بالضبط، قدّم عملًا روائيًا مفككًا وغير مترابط، يبدأ بشيءٍ من الوضوح، وينتهي إلى غموضٍ غير مُبرر، لا يتعلق بتقنياتٍ وألاعيب سردية يُبرَر عبرها ضعف العمل وغموضه/ ضياعه عادةً، وإنما بغياب الحبكة الذي دل عليه تداخل الحكايات ببعضها بشكلٍ يرهق القارئ ويستنزفه.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يستطيع الأدب؟

صحيح أننا نلمس محاولاتٍ لتقديم عملٍ جيد مطلع الرواية، ولكنها لا تبدو كافية، لأن العبرة في الختام كما يقال. وبين البداية والنهاية، المطلَع والختام، تفقد محاولات أيمن مارديني معناها، وتبدو ألاعيبه السردية، مثل التجريب ومزج الخيال بالواقع ومحو الحدود الفاصلة بينهما، ضربًا من العبث، وحملًا زائدًا على النص الذي سيصير ثقيلًا على القارئ الذي توقع، انطلاقًا مما ظهر في مطلع العمل، شيئًا مختلفًا تمامًا.

ويمكن القول إن الأسئلة التي قد تثيرها هذه الألاعيب، والتي يُفترض أن تلفت انتباه القارئ، هي أسئلةٌ مصطنعة وسطحية، بل وفجة أيضًا، لأنها تسبق النص، تمامًا كما لو أنها وضِعت جانبه ولم تولد منه تلقائيًا، والسبب، مجددًا، هو ضعف الحكاية وسطحيتها التي لا تسمح لها بأن تكون عميقة بما يكفي لأن تُثير أسئلة ملفتة، تستولي على اهتمام القارئ وتشده باتجاهها.

والقارئ، وفقًا لطبيعة النص الذي يتعامل معه، لن يكون مهتمًا بمعرفة ما إذا كانت الرواية عبارة عن حكاية واحدة تُراوِح بين الخيال والواقع، أم أنها مجموعة حكاياتٍ تنتمي إلى عالمين مختلفين تمامًا. كما أنه لن ينشغل بتحديد هوية الرُواة – وهم كُثر داخل العمل – ومعرفة ما إذا كانت القصص التي يروونها تحدث في متن الحكاية الرئيسية، أم في مخيلتهم فقط. إذ إن وضع إجاباتٍ لهذه التساؤلات، لن يُغيّر من واقع العمل الذي لا يحتاج إلى من ينشغل بما يُثيره من تساؤلاتٍ سطحية، وإنما لمن يُنقذه ويُعيد لملمته، عبر منحه قصة مقنعة، وحبكة متماسكة، وأسلوب أكثر وضوحًا، وهذه بطبيعة الحال ليست مهمة القارئ.

الخلاصة مما ذكرناه، أن مارديني فشل في استثمار جميع العوامل التي يمكنها، نسبيًا، إنقاذ عمله المترهل تمامًا، فالحكاية التي قدّمها، والتي نجحت أول الأمر في لفت الانتباه، مملة ومألوفة، لا تأتي بجديد، وتُروى بعشوائية فجة تمامًا، بحيث لا تستطيع الألعاب السردية تجميلها أو إنقاذها، إلا إذا توقف القارئ عندها فقط، ولم يذهب أبعد منها، تمامًا كمن يقف أمام منزلٍ رائع التصميم والمظهر، ولا يكلف نفسه عناء السؤال عما يتوارى خلف جدرانه.

قدّم أيمن مارديني عملًا روائيًا مفككًا وغير مترابط، يبدأ بشيءٍ من الوضوح وينتهي إلى غموضٍ غير مُبرر نتيجة غياب الحبكة

أما بالنسبة للأسئلة السابقة التي قد تُثيرها هذه الألعاب، ويُصادفها من يتوقف عندها، فلا تتعدى كونها فائضًا زائدًا لا حاجة له، طالما أنها تتوسط حكاية سطحية ومملة. ما الذي تبقى من العمل إذًا؟ شخصياته، ولكن قبل الانتقال للحديث عنها، لا بد من التوقف قليلًا عند الحكاية.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "ونيس".. عن النساء الوحيدات

نتعرف في مطلع العمل إلى أيمن، الذي يحدثنا عن كتابٍ يسمى "كتاب النائمين"، وهو كتابٌ يخص عائلته المعروفة بعائلة "الساحر"، إذ يروي حكايتها ويجمع أسرارها أيضًا، قبل أن يختفي فجأة، ليخلّف هذا الاختفاء حالة من اللبس، فبينما يُصرّ بعض أفراد العائلة، لا سيما أيمن ووالده، على وجوده، ينفي بعضهم الآخر الأمر تمامًا، ويعتبرون الكتاب مجرد وهمٍ أو حكاية لفقتها العائلة وصدقتها. ­

الحديث عن "كتاب النائمين" وسره وسر عائلة الساحر، يقود الراوي للحديث عن نانو، ابنة عمه وعشيقته التي انفصلت عنه لأسبابٍ لا تبدو مقنعة، شأنها شأن الحكاية برمتها. وعبر سرده لذكرياته معها، نتعرف إلى الخال المولع بكتاب "ألف ليلة وليلة"، ومن ثم إلى سامي الذي لا نعرف ما إذا كان واقعًا أم وهمًا يدور في مخيلة شخصيات العمل، وفي الحالتين، لن يُحدث الأمر فارقًا يُذكر إطلاقًا.

ويمكن القول إن الحكاية تنتهي بمجرد ظهور سامي، إذ لن نُصادِف بعد وصولنا إلى الفصول التي تتحدث عنه وعن ظروف ولادته التي لا تنتهي، أكثر من أوصاف وخواطر لا معنى لها، تقابلها بضعة أحداث قليلة، والكثير من التكرار، إذ تُعيد الحكاية عند هذه النقطة تكرار نفسها، ولا تأتي بجديدٍ يُذكر، وإن قمنا بحذف ما هو مكرر وزائد، كالتساؤلات التي يطرحها الرُواة على أنفسهم بشيءٍ من البلاهة والسذاجة، والصفات التي تُغرق العمل وشخصياته أيضًا، والخواطر التي يُراد منها "التفلسف" على ما يبدو، لن تكون الرواية أكثر من قصة قصيرة مُصابة بالبدانة والترهل.

هنا، لا بد من التساؤل: لم 261 صفحة لحكايةٍ كان يمكن أن تُروى بأقل من ذلك؟ لم الحشو وتعويض غياب الأحداث بأسئلةٍ ساذجة؟ وصفاتٍ تَغمرُ شخصيات العمل إلى الحد الذي يجعل منها شخصيات سطحية بامتياز؟ وإن بحثنا عن وصفٍ دقيق للشخصيات التي رسمها مارديني، وسط سيل الصفات التي أُغرقت بها، يمكن القول إنها أقرب إلى السيارات التي نصادفها في الشارع، تلك التي دندشها/ زيّنها أصحابها بشكلٍ طمس ملامحها تمامًا.

تنتهي الحكاية بمجرد ظهور سامي، إذ لن نُصادِف بعد وصولنا إلى الفصول التي تتحدث عنه أكثر من خواطر وصفاتٍ لا معنى لها

هذا بالضبط ما فعله مارديني مع شخصياته، لا سيما شخصية سامي التي هيمنت عليها صفاتها التي يُلصقها بها الآخرون بغزارة، فلا يحضر إلا عبر صفاته هذه، ولا نعرف عنه شيئًا أكثر منها: ولد بجناحين، زار النجوم وهبط على القمر، يعرف الغد ويراه ويسمعه ويشم رائحته، هو هنا دائمًا، موجود منذ أكثر من سبعة آلاف عام، وكأنه في الأصل ولد فرعونًا صغيرًا، جاء إلى الحياة والكائنات من بعده ضياء، فتىً من حرير، ناعم وحساس، يشعر من يراه بخفته، جاء من نسل الروح لا الرحم، وهو العشق وهو السر وفك المطوي وكشف المجوب.. إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: روجيه غرينييه.. في قصر الكتب

لماذا هذه المبالغة والإفراط في استخدام الصفات؟ ما الغاية منها؟ وهل القارئ مهتم فعلًا بقراءتها؟ وبمعرفة أن سامي ولد بجناحين بين الحين والآخر؟ وأن الكائنات من بعده ضياء؟ إذا كانت الغاية هي بناء شخصية خيالية وخارقة وفوق كل تصوُّر، فقد نجح أيمن مارديني في بنائها فعلًا، ولكن فاته أن شخصياتٍ مبهرجة كهذه، ليست صالحة للقراءة. وإن كانت الغاية غير ذلك تمامًا، فإن واقع الشخصية لا يتغير، تبقى شخصية بين شخصياتٍ سطحية أخرى، ووسط حكاية مصابة بالبدانة والترهل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟".. على التراب الساخن

رواية "قلب الملاك الآلي".. الرحم هو القلب الثاني