14-يونيو-2019

أحمد كامل (فيسبوك)

ألترا صوت – فريق التحرير

عن الرواية

جحافل لا نهائية من النخل تتدحرج أفقيًا، بانتظامٍ وخفّة، خلف جسمٍ بشريّ ضئيل، متجهةً إلى قرية الغزالة لتدمّرها تمامًا. وفيما يعيش سكان القرية وأهلها رعب اللحظات الأخيرة في انتظار قدرهم المحتوم الذي يرسمه شخصٌ يسعى للانتقام، ثمّة مواضٍ تتكشّف، وأحداثٌ تظهر، وحكاياتٌ تتناسل لتروي قصة قريتَين خياليّتين.

في أجواء غرائبيّة، وعلاقاتٍ أغرب بين شخوص روايته، يشتبك أحمد كامل مع فكرة العجز البشري، ويخوض في عوالم الرغبات السرّية، التي لا يجرؤ الناس على إعلانها، أو البوح بها.

"جبل المجازات" للكاتب أحمد كامل رواية تستلهم من مأثورات القرى في الريف المصري، ومعتقدات ناسه، وحكاياتهم الخرافية، لتبني أسطورتها الخاصة.

مقطع من الرواية

وعند دخولهم إلى الغزالة بعد صلاة العشاء؛ كان الناس يفرّون من حول فوزي وأهله، وشوّح الخفر لفوزي وأمروه بالانتظار بعيدًا عن مدخل البيت عندما سأل عن الحاج علي. واستمرّ التجنّب لعدة أيام كأنهم مجذومون بالرغم من مودّة علي أبو لبدة واستقباله، قبل أن يتجرّأ عيال الغزالة على الاقتراب من عيالها؛ ليسألوهم في شكٍّ وخوف عن حال المناجاة أثناء البدل، وصحّة كلام أهل الغزالة عن المناجاة.

لقد عصف البدل بصابحة قبل أن يزلزل المناجاة. كانت المناجاة قد حَرُمَت على فوزي منذ طرده من العمل في غيط القط، وأصبح قاعدًا بلا صوت أمام العشّة، جامدًا ومنقطعًا، لا ينام ولا يتحرّك إلا حينما تهزّه ساعات من بكاء مصحوب بتذكّر لروحه وهو يجري من أيدي العمال والعيال في الغيط بعد ملامسات الخولي لجسده والتصاقه به طوال النهار. يغيب في الليل إلى حضن النخلة ويعود لينام، ويصحو إلى القعود أمام العشّة طوال النهار. ولم تفهم صابحة وعديلة إلا بنثار كلام محكي في السوق وأمام السلان، كلام خجلان من نساءٍ يواسينَ نساءً في غُلب. وأخرجت عديلة ما تملكه في تيس وعنزة، أشارت عليه بطلب الرزق في الخلاء بعيدًا عن الناس. كانت أولوية البيت هي إخراج الرجل من حالته وإعادته إلى الدنيا. لكن بعد أيام من سروحه، كان فوزي يعود مجرجرًا خلفه بضعة أغنام، رابطًا قوائمها الأمامية بحبال وهي تنطّ وراءه على القوائم الخلفية. كانت صابحة تتناول الماشية من فوزي بعد عودته من الصحراء في كلّ ليلة وتسأل في دهشة عن صاحبها، ويردّ كأنه يذكِّر: "رزق ربنا خارج المناجاة أكثر مما هو داخلها". تذهب هي إلى السوق وتبيع بأقل سعر، تعود هانئة ومرضية. وامتلأت بيوت البلد ببهائم فوزي، لم يخلُ بيت من شاة أو ماعز من ماشية فوزي، ووصل الصيت إلى خارج حدود المناجاة؛ فأتى التجار من قرى غريبة في طلب نصيب من الماشية. وحتى عندما حاول البعض التضييق عليهم واتهام فوزي بسرقة الغنم، محاولين طردها من السوق، لم تصمد تلك المحاولات أمام كلمات المنتفعين التي تنهال مطالبة بترك الغلبانة لتأكل العيش وتستتر هي وعيالها.

وفي يومٍ لا يغيب عن بالها بجميع تفاصيله؛ صحت متكسّرة من النوم إثر حلم ظلّت مشاهده أمامها طوال النهار ولأيام تالية، كانت فيه تتحوّل إلى نخلة عملاقة، تمتد من رأسها حبال طويلة وغليظة، تطير الحبال وتركض خلف الناس في دروب وبيوت البلد، تلتفّ حول رقاب الرجال وتجذبهم بقوة إلى الأعلى حتى تنقصف رؤوسهم وتسقط، ثم تنبت من رقابهم رؤوسٌ جديدة لبهائم، تتأرجح أجسادها في الهواء وهي معلّقة في الحبال، وأقدامها تفرفر للحظات قبل أن تثبت متشنّجة.

كانت تصحو وتجهّز إفطارًا، تقعد وتأكل مع العيال وعديلة، تركت فوزي الرائح في نوم، وأشارت إلى ماجور فخاري بجوار الفرن، قالت للبنت أميرة: "جهّزي للخبيز حتى أرجع. وأنزلي حزمة قشّ من السطح ولقِّمي الفرن بعد سحف الرماد ومسح البلاطة". كانت صابحة في الليلة السابقة قد طحنت القمح بالرحى وغربلت الدقيق بالمنخل الحرير وفصلته عن النخّالة، عجنت الدقيق في الماجور مع ملح وماء، ثم خمّرته، وتركت النخالة في إناء آخر لتفرشها على المقارص. وعند الباب، تناولت الأغنام المربوطة أمام طُباعة العليق، التي ملأها فوزي بعد عودته من الصحراء بالأمس، سحبت الأغنام وهمّت إلى السوق.

كانت يومذاك تقف تحت شمس حامية، والباعة يزنقون عليها في المساحة ويجبرونها على الوقوف في آخر سوق البهائم بلا قطعة خيش فوق الرأس. وهي تمسك بأطراف الحبال المربوطة حول قوائم الغنم، تنادي وحولها يتجمّع الخلق. وبدأت فصول الكرب؛ حينما انقلب سعد الصاوي على يديه وركبتيه، واندسّ بين الغنم يمأمئ ويزاحم برأسه حول سطل الماء، بعد مضيّ دقائق من معاينته لعنزة في يد صابحة، وبعد أن جفّ ريقها في الردّ على مساوماته وتعييبه البضاعة؛ فضجرتْ وأعلنت أنها لن تبيع له. رفسته صابحة في بطنه وهو منكفئ بين الغنم على الأرض بينما تشهق وتصرخ: "عملك أسود يا ابن الصاوي! غُر من هنا". ازدادت مأمأة سعد والناس يتفرّجون ويضحكون في الأول على المنظر، وبعد ذلك يعيبون على الرجل تلاعبه بالستّ ويطالبونه بالكفّ عن التهريج والقيام. لكنما انقلب حال السوق في لحظات حينما توالى انكفاء الرجال على أربع مختلطاً بأصوات مواءٍ وخوارٍ ونهيق ونباح. كانت النساء واقفات في السوق يبسملن ويستعذن، وحولهنّ تتناثر أفعال حيوانات سارحة. وما لبث الرجال أن تداخل بعضهم في بعض؛ ركض النابح خلف المائيْ، وعضّ العاوي أكتافَ الناهق. كان الرجال يفركون ويتخلّصون من الثياب، يتفرّقون عراةً في دروب المناجاة سعيًا على الأيدي والأقدام. وهجم الشيخ عمر أبو حلاوة على قفص طيور ونهشها حيّة بأسنانه أمام صرخات امرأة قاعدة وراء القفص، قبل أن يهمَّ نحوه سالم البرج من أول السوق وهو يزمجر؛ فيقفز الشيخ عمر إلى ماء السلان. رأت صابحة أذني الشيخ وهما تستطيلان، تقفان ككوزَيْ ذرة وتتوتران في الجهات مع نباح سالم، والشيخ يركض على كلّ أطرافه بسرعة وخفّة لا تتناسبان مع سنّه وثقل الجسم، وخلفه قفزات لا آدمية من سالم. كانت قدرات الرجال المتحوّلين تأخذ العيون بسرعة عن فعل البدل ذاته. وجرّت صابحة الغنم خارجة من السوق في صعوبة باتجاه البيت وهي تهشّ رجالًا مزمجرين ومتجمّعين حول الأغنام بيديها.

 

عن الكاتب

أحمد كامل كاتب مصري، من مواليد عام 1981. صدر له ديوانا شعر، و"جبل المجازات" هي روايته الثانية بعد "العهد القديم – آخر 48 ساعة في حياة المدهش".

 

اقرأ/ي أيضًا:

خيري الذهبي في رواية "صبوات ياسين".. تشظيات المثقف

خيوط العُنف اللامرئية.. مُقاربة سلافوي جيجك