28-مارس-2021

الكاتب الإسباني خوليو ياماثاريس (1955)

البحث عن وصفٍ دقيقٍ للوحدة التي رسمها الكاتب الإسباني خوليو ياماثاريس (1955) في روايته "المطر الأصفر" (سنابل للكتاب، 2008/ ترجمة طلعت شاهين)، هو أول ما سيستوقف قارئها بعد الانتهاء منها، والسبب بسيط، وهو أن الوحدة التي قابلها في الرواية ليست مألوفة، ولا يبدو تأثيرها طبيعيًا أيضًا، لا سيما وأن شكل الحياة الذي فرضته على أبطالها، والمصير الذي دفعتهم نحوه، لا يبدو قابلًا لأن يُمحى من ذاكرته.

تلفت الرواية الانتباه إلى نمطٍ مختلفٍ من الوحدة التي تحيل حياة الفرد إلى حُلمٍ مُرهِق، الثابت الوحيد فيه أنه لم يعد مرئيًا

صحيحٌ أن الكاتب الإسباني أتاح للقارئ عدّة مداخل ينطلق منها في قراءة روايته وتأويلها، إلا أنها في واقع الأمر ليست أكثر من بواباتٍ ثانوية تُفضي إلى ممراتٍ ملتوية، تنتهي بسالِكها أمام المدخل الرئيسي الذي يُريد ياماثاريس أن تُقرأ "المطر الأصفر" انطلاقًا منه. فالرواية لا تتحدث عن الهجرة من الأرياف والقُرى باتجاه المدن، ولا تنتقد السياسات الاقتصادية المسؤولة عن هذه الهجرة، وليست مجرد بوحٍ داخليٍ لبطلها الذي يستعيد بمرارةٍ ما عاشه وخَبِرَه لحظة شعوره بدنو أجله.

اقرأ/ي أيضًا: نقاد القلوب الطيبة

"المطر الأصفر" رواية عن الوحدة في المقام الأول، لا تلك التي يلجأ إليها الفرد لشعورهِ بأنه مختلفٌ عن الآخرين غريبًا عنهم، أو القسرية التي تتقاطع مع النبذ والعَزل، أو تلك التي تُتخذ أسلوبَ عيشٍ ونمط حياة، وإنما وحدة مبهمة غير متوقعة، تحيل الإنسان كائنًا بدائيًا منفصلًا عما يحيط به، لا يفقه معنى وجوده، ولا يبدو مهتمًا بالأمر، ذلك أن ما يترتب عليها، وما تفرزه من أفكار وأنماط عيش وسلوك، يلغي اليقين، ويجعل مما يحيط به ضبابيًا متبدّلًا لا يعرف الثبات على مظهرٍ واحد.

الوحدة التي يقدِّمها خوليو ياماثاريس في روايته، ترتبط بشعور الفرد بأنه عالقٌ في مكانه دون أن يكون جزءًا منه، لأن من كان ينبّهه إلى انتمائه إليه، لم يعد موجودًا. هذا بالضبط حال بطل الرواية، العجوز الذي عاش في ظل الوحدة وتحت تأثيرها لأكثر من عشر سنوات، أمضى الجزء الأكبر منها فاقدًا لإحساسه بأنه موجود، إذ إنه لم يكن مرئيًا في مكانٍ تغيب فيه عين الآخر التي تنبّهه إلى وجوده حينما تراه. يقول خورخي لويس بورخيس: أن يكون المرء هو أن يُرى.

يُسقِط الكاتب الإسباني هذا النمط من الوحدة على بطل الرواية وزوجته، بحيث يكون لديه نموذجان يستعرض عبرهما تأثيرها الذي بدأ لحظة فراغ قريتهما من سكانها الذين: "بعد قرونٍ عديدة، اكتشفوا البؤس الذين يعيشونه، ولا سبيل إلى التخلص منه إلا بالرحيل إلى مكانٍ آخر" (ص 74).

مثّلت سابينا، زوجة البطل، النموذج الأول الذي يُعبّر عن إنسانٍ عاجزٍ عن مواجهة حقيقة أنه وحيدٌ في مكانٍ خالٍ من البشر، الأمر الذي يُفسِّر استسلامها التام لإفرازات الوحدة وآثارها: "سقطت سابينا في البلادة والصمت العميق شيئًا فشيئًا، كانت تمضي الساعات جالسة أمام النار، أو تتأمل الشوارع الخالية عبر النافذة الكبيرة، ولا تكترث بوجودي، أراها تهيم في البيت كشبح، تختلس النظر لانعكاس الضوء واللهب المتراقص الذي لا يعرف طريقًا لإنقاذ تلك النظرة التائهة، وأنا عاجزٌ عن اختراق حاجز الصمت الذي يكاد يقضي على البيت كله، وعلى حضوري نفسه" (ص 31).

ترتبط الوحدة في الراوية بشعور الفرد بأنه لم يعد موجودًا بسبب غياب عين الآخر التي تنبهه إلى وجوده حينما تراه

يضم الاقتباس السابق دلالتين لا بد من التوقف عندهما: وصف الراوي لزوجته بأنها شبحٌ هائمٌ في البيت، وتحميله الصمت مسؤولية القضاء على حضوره. في الأولى اختزالٌ لمصير الفرد تحت تأثير هذا النمط من الوحدة، حيث يتحول إلى كائنٍ غير مرئيٍ في غياب من يراه وينفي عنه هذه الصفة، وهو ما ينطبق لا على سابينا فقط، وإنما على زوجها أيضًا، فكلاهما غير مرئيين وإن نظرا لبعضهما البعض. بل إن تبادل النظر هنا له تأثيرٌ عكسي، إذ يذكرهما بما آلت إليه أحوالهما، شبحان هائمان في مكانٍ مهجور، يتأرجحان بين الماضي والحاضر نتيجة فقدانهما الإحساس بالزمن، والقدرة على التمييز بين ما مضى وما يحدث لتوه.

اقرأ/ي أيضًا: هشاشات الشِّعر مُركّبة

أما الدلالة الثانية، فتشير إلى الصمت في ظل الوحدة التي تسببت به، بصفته دليلًا إضافيًا على عدم الحضور واكتمال الغياب، إذ لا يكفي النظر وحده ليُنبّه المنظور إليه إلى وجوده، ولا بد في هذه الحالة من تبادل الكلام، لا لنفي الوحدة، وإنما لمنعها، قدر الإمكان، من إبعادهما عن الواقع، وإحالتهما إلى غيابٍ ينزع عنهما صفاتهما الإنسانية أيضًا. فالكلام مثل النظر، ينفي الغياب ويُثبت الحضور، وإن مؤقتًا.

امتناع سابينا عن الكلام والنظر إلى زوجها، مردّه عجزها عن التعامل مع الوحدة وفكرة خلوا قريتها من سكانها من جهة، والإرهاق الذهني الذي تسبب به فقدها للقدرة على الإحساس بالزمن والتمييز بين ما حدث ويحدث من جهةٍ أخرى. إذ إنها، بعد فراغ القرية من سكانها، لجأت إلى ذاكرتها التي حاولت ملأ هذا الفراغ من خلال استعادتها مشاهد وأحداثٍ مضت، مما جعل من القرية قريتين، واقعية مرتبطة باللحظة الراهنة، ومتخيلة تشكلها ذكريات سابينا التي تداخلت عليها الأزمنة بشكلٍ أرهقها، وسلب منها القدرة على التعامل مع التبدّل المستمر لصورة القرية وواقعها الذي أخذ يتغيّر بناءً على ما تستعيده ذاكرتها، فتكون مكانًا مهجورًا تهيم فيه مثل "طيف أو بخار خيالي" (ص 30) تارةً، ومكانًا صاخبًا ببشرٍ يعبرون أمامها تارةً أخرى.

العجز في التعامل مع هذا النمط من الوحدة التي تحيل حياة الفرد إلى فوضى تغرقه في محاولات التمييز الفاشلة بين الواقعي والمُتخيّل، الحاضر والماضي، بالإضافة إلى غياب ما يُثبت وجوده وينبّهه إليه، دفع سابينا نحو الانتحار سعيًا للخلاص والحفاظ على ما تبقى من قدراتها العقلية: "كانت سابينا هناك، تتأرجح ككيس معلق بين الآلات القديمة، عيناها مفتوحتان على أقصى اتساعهما، والعنق ملتف حول الحبل" (ص 34).

اعتمد خوليو ياماثاريس على سابينا لا في تقديم نموذجٍ لأثر الوحدة على الفرد الذي يستعجل الخلاص منها، وإن عبر الانتحار، وإنما في اقناع القارئ بحكايته، تحديدًا الجزء المتعلق ببطل الرواية، زوج سابينا الذي عاش في ظل الوحدة وتحت تأثيرها لأكثر من عشر سنوات. فالقارئ لا بد أن يتساءل عن السبب الذي دفع البطل للبقاء في القرية وحيدًا كل هذه السنوات، وانتحار سابينا هنا بمثابة إجابة على هذا السؤال، فما الذي سيدفع عجوزًا فقد زوجته ومن قبلها أبنائه إلى مغادرة القرية والبحث عن مكانٍ أفضل لمواصلة الحياة؟ أي حياةٍ في ظل هذه الخسارات؟ وما الجدوى منها أساسًا؟

دون انتحار سابينا، كان من الصعب أن يكون لبقاء البطل في القرية أي معنى، إذ إن انتحارها بعد وقتٍ قصيرٍ على هجرة آخر سكانها، برَّر بقائه في القرية، ولكنه قبل ذلك وضعه على المسار الذي سلكته زوجته من قبله رغمًا عنها، فبدا هو الآخر فاقدًا الإحساس بالزمن، عاجزًا عن التمييز بين الماضي والحاضر، الواقعي والمتخيّل، الأحياء والأموات، مع فارق يكمن في تحول حياته في ظل ما سبق، وتحت تأثير الوحدة، إلى حُلمٍ طويل ومرهق، يتداخل فيه الخيال مع الواقع بشكلٍ فوضوي.

أحالت الوحدة بطل "المطر الأصفر" إلى شخصين متناقضين، يرغب الأول في البقاء داخل البيت لئلا يجد نفسه مُجبرًا على معاينة الخراب الذي حل بالقرية بعد غياب سكانها ووفاة زوجته. بينما يريد الثاني مغادرته حتى لا يضطر إلى مواجهة خرابه الداخلي. الأول يلوذ بالبيت من أشباح القرية، أو سكانها الذين تستعيدهم ذاكرته في سياق إعادة تشكيلها لصورة المكان من حوله، دون أن تكون صورة ثابتة. والثاني يجد في القرية ملاذًا يجنّبه البقاء في البيت لوقتٍ طويل يُجبر فيه على مواجهة أشباحه وذكرياته معهم.

يمكن القول إذًا إن الوحدة ساوت عند بطل الرواية بين الواقعي والمتخيّل، وألغت ما يميز بين الحضور والغياب، إذ إن ما ينتبه إلى حضوره هو في الأساس غائبٌ منذ سنواتٍ طويلة. ابنته التي تتجول لتوّها في غرف البيت، توفيت في الرابعة من عمرها. وابنه الذي يعود: "كطيفٍ قديمٍ يلبّي النداء" (ص 56)، فُقِدَ في الحرب الأهلية. وسابينا التي لم تتركه لحظة واحدة: "طوال فترة الحمى (...) تجلس على حافة السرير كشبحٍ من أشباح البيت" (ص 66)، انتحرت في مطلع الحكاية.

"المطر الأصفر" رواية عن الوحدة التي تحيل الإنسان كائنًا بدائيًا منفصلًا عما يحيط، لا يفقه معنى وجوده، ولا يبدو مهتمًا بالأمر أيضًا

أما والدته التي: "تأتي في منتصف الليل، عندما يغالبني النعاس، وتخمد الأخشاب بين جمرات الموقد (...) تظهر فجأة في المطبخ، بهدوءٍ وسكون، دون أن تعلن أبواب الممر ولا الشارع عن قدومها" (ص 82)، توفيت هي الأخرى قبل أمدٍ طويل. ومع تقدّم السنوات التي كان يقضيها في ظل هذه الوحدة التي بات تأثيرها واضحًا على الفرد، لم يعد أفراد عائلته، أو أشباحهم، يحضرون بشكلٍ فردي: "لم يكن في المطبخ غير أشباحٍ ميتة، صامتة، تتحلق حول النار (...) بذلت جهدًا لأتعرف على وجوه سابينا وكل موتى البيت" (ص 83).

اقرأ/ي أيضًا: رواية "عين حمورابي" لعبد اللطيف ولد عبد الله.. تنقيب في المجتمع

قدَّم خوليو ياماثاريس في "المطر الأصفر" عملًا أراد منه، بالدرجة الأولى، لفت الانتباه إلى نمطٍ مختلفٍ من الوحدة التي تتجاوز الفرد وتمتلكه، دون أن تثير في نفسه أي مشاعر، ذلك أن الشعور دليل ينفي الغياب ويُثبت الوجود الذي تسعى إلى نفيه، مما يدفعها إلى إلغاء مشاعر الفرد تمهيدًا لإلغاء وجوده وطرده إلى فوضى مخيفة، تتبدّل فيها صورة المكان بشكلٍ متسارعٍ يدفعه للتساؤل عما إذا كان يعيش في الماضي أم الحاضر، دون القدرة على الوصول إلى إجابةٍ حاسمة، بسبب فقده القدرة على التمييز بين الأزمنة، والإحساس بالوقت، تمامًا كما لو أنه يعيش في حُلمٍ طويلٍ ومُرهِق، كل ما فيه مُتغيّر، باستثناء حقيقة أنه لم يعد مرئيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العودة إلى متون غسان كنفاني

تُرجم قديمًا: سحر شنغهاي