05-أبريل-2025
المسيح الأندلسي

غلاف رواية المسيح الأندلسي (الترا صوت)

تقوم فكرة رواية "المسيح الأندلسي" (منشورات المتوسط، 2024) للروائي السوري تيسير خلف، على تأصيل وتأريخ إحدى أحلك الفترات في تاريخ الحضارة الإسلامية في بلاد الأندلس، وهي فترة ما بعد سقوط الدولة الإسلامية، إذ تتناول الرواية الأوضاع المزرية التي عاشها المسلمون بعد السقوط من تضييق الخناق عليهم، والقتل والتنكيل بهم، ومحاولات طمس هويتهم الدينية والثقافية من خلال إجبارهم على الارتداد عن الإسلام والتحول إلى المسيحية.

تستعرض الرواية كذلك مظاهر معاناتهم مع اضطهاد محاكم التفتيش، مثل الإعدامات والموت تحت التعذيب ومحاولات الاحتيال على المحاكم عبر التظاهر باعتناق المسيحية لإبعاد الشبهات والتدرج في المناصب الدينية المسيحية، تماشيًا مع الوضع القائم، لدرجة الوصول أحيانًا إلى الأساقفة والقساوسة والكهّان بهدف حماية أنفسهم من أي خطر محدق.

ابتدأ خلف روايته بمقدمة يشرح فيها مصادره وأبحاثه حتى يلم بكافة خيوط حبكته الروائية. وقد فسر في هذه المقدمة الأسماء والأماكن والشخصيات، وبعضها حقيقي ومثبت في كتب ومراسلات شتى. وقد أجبره ذلك على البحث بجد وجدية والتنقيب والمقارنة بين المصادر ليقارب الحقيقة أو يكاد. هذا الاجتهاد الواضح والبحث ليس سوى دلالة على تفوق الموضوع وثراء السرد الذي كان مقنعًا في كافة مفاصل الرواية، سواء من الناحية التوثيقية التاريخية أو الناحية الفنية.

تتناول الرواية الأوضاع المزرية التي عاشها المسلمون بعد سقوط الأندلس من تضييق الخناق عليهم، والقتل والتنكيل بهم، ومحاولات طمس هويتهم الدينية والثقافية

كتب خلف روايته من مدينة إسطنبول، التي دارت فيها معظم أحداث الرواية، حيث استأثرت المدينة بالأحداث الهامة وبعض الإجابات على التساؤلات المتعلقة بالفكرة العامة. أما الأفكار الثانوية، فقد مهّدت وأثّثت لكلّ الأحداث بالتعاون مع الشخصيات.

وسلطت الرواية الضوء على الصناعات التي كانت متطورة وثرية عند المسلمين، مثل التطريز والصباغة والحياكة بالإضافة إلى فنون الخطوط العربي المتجذرة والمتنوعة في بلاد المسلمين، ومن ثم الطبابة والتداوي. وهذا ما خصّ به أهم شخوص الرواية، الشخصية الرئيسية عيسى بن محمد الذي برع في الخط والترجمة والثقافة العامة الواسعة، وفيروزة ووالدتها إيبرو في الصباغة والتطريز والحياكة والمنسوجات، بالإضافة إلى شقيقها من والدها ووالدها أيضًا.

تميز والد البطل باهتمامه بالطبابة والتداوي والاكتشافات الطبية، إضافةً إلى الترجمة وسعة الاطلاع، عدا عن إلمامه بالمذاهب الإسلامية والتاريخ والفنون والعمارة وفنون الطبخ. وقد برزت هذه الاهتمامات بجمال أخّاذ في كل مفاصل الرواية من خلال السرد والوصف.

كما تستعرض الرواية الشغف بحب العلم والاطلاع والفخر بكل التراث العربي والإسلامي، من خلال الحفاظ على الإرث القديم ومحاولة نقله على الرغم من التشويش المعتمد والسرقة والخطف والقتل الذي كان يمارسه النظام الكنسي بحق المسلمين في تلك الفترة، من خلال الطمس المتعمد للحضارة وسرقتها بترجمتها، وأخذها عنوةً من أصحابها الحقيقيين "المسلمين". وقد ظهر ذلك في فترة الأسر الطويل الذي وصل إلى درجة الاستعباد لـ"عيسى بن محمد في دير لغاية الترجمة وأخذ كل التراث ونقله لهم".

وأبرزت الرواية كذلك حالة الحب العذري الشريف الذي يتماثل ويتطابق مع مُثلنا العربية والإسلامية، وهو ما تجسد في العلاقة الجميلة بين عيسى وفيروزة، وكذلك العلاقة التي كانت سابقًا بين والده ووالدته، الأمر الذي لا يوجد لدى الغرب.

وظهرت "القدرية"، أو ما يسمى بـ"الحظ"، بوصفه نسقًا أفقيًا في الرواية ربط خيوطها من خلال عدة عوامل، وهي: دخول عيسى إلى الإسلام بوصيّة من والدته لخاله، والتقاء عيسى بوالده غير مرة دون أن يعرفه، وسفر عيسى وفيروزة في البحر، ثم غيابهما معًا وبنفس المدة الزمنية، واستعباد كل منهما لمهمة، ثم التقائهما عدّة مرات في الطريق دون أن يعرفا بعضهما. هذه الخيوط التي رُبطت بإحكام "عملت القدرية أو الحظوظ فيها". كما أن العدو لأحدهما، وأقصد البطلين عيسى وفيروزة، هو عدو لكليهما: قاتل والدة عيسى بوشاية هو ذاته قاتل والد فيروزة بوشاية أيضًا. 

الشخوص في الرواية

عيسى بن محمد (خيسوس) هو الشخصية الأساسية المحركة للأحداث، والتي أثثت وكانت الراوي في معظم الأقسام. تقابلها فيروزة، الشخصية الرئيسية الأنثوية التي ارتبطت بالبطل في كافة المفاصل. وعن طريق علاقة الحب البريئة بينهما، ربطت خيوط الرواية وحاكتها بمهارة رائعة .

والد ووالدة فيروزة، ووالد عيسى، محمد بن أبي العاص، الذي لم ينكشف إلا في الختام وبحبكة رائعة أظهرته أحيانًا بوصفه عدو إلى أن تكشف بمهنية روائية مشوقة. وهناك خالة عيسى إيزابيلا البارعة في الطبخ الأندلسي، وخاله وزوج خالته وابن خاله. والكثير من الشخوص التي مرت تباعًا وربطت وساهمت في تأسيس أحداث العمل. 

براعة الحبكة الثنائية والتنقلات الحدثية 

القصد بالحبكة الثنائية هو التصاعد الحدثي ما بين الشخصيتين الرئيسيتين، الشخصيّة الذكورية عيسى بن محمد (خيسوس)، من حيث التصاعد الدرامي بنسقٍ ثابت ركّز على الحوادث التي مرت به، مرورًا بمقتل أمه على يد محاكم التفتيش، وبوشاية خسيسة من "الشخصية الشريرة الثابتة "خيرونيمو راميريز/سليم أفندي".

ومن ثم الأحداث التي تجاوزها صعودًا وهبوطًا، ابتداءً بتلقيه حلقات العلم الديني الإسلامي على يد جماعته، ومن ثم التناحر بين جماعتين لهما أهداف مختلفة، ومن ثم خطفه واستعباده في ترجمة ونقل كنوز الكتب العربية الإسلامية في محاولة كبيرة لطمس تلك العلوم وسرقتها وتجييرها للغرب وبسرية كاملة، ولاحقًا النجاة من الأسر والعودة، وكل هذه الأحداث تضافرت بشكل فُسّر فيما بعد مع نفس الطريقة الدرامية للشخصية الأنثوية فيروزة، والتي سافرت ثم اختطفت مع أمها وقتل والدها من قِبل الشخصية الشريرة ذاتها، لكن باسم آخر: سليم أفندي! أي أن العدو واحد.

الاختطاف والاستعباد جرى مع الشخصية الأنثوية في نفس الفترة وهذا التضافر البنيوي الهيكلي أثث بطريقة درامية دراماتيكية تشويقية رائعة لهذه الرواية، حيث التقيا في بعض الأمكنة وفي مفاصل الرواية.

وجدت أن الروائي المثقف الذكي أحسن توظيف ثقافته في التضفير ووصف الأمكنة والاستفادة من ذلك في تلميع الفكرة، وإضافة الرتوش كالجواهر في العقد "من ذكر أطايب الطعام العربي الأندلسي، وبالوصفات والأسماء والمقادير، وذكر الخطوط العربية وفنون التطريز والحياكة ومهارة الثقافة والفنون  الإسلامية في تلك الحقبة". 

ثم ذكر حوادث عرضية لكنها كانت ذات قيمة من خلال وصف جشع وطمع الغربي ومحاولة الاستغلال والاسترقاق حتى النهاية "من الملكة في حادثة اختطاف فيروزة، ومن الشخصية التي خطفت عيسى وجعلته يصل الليل بالنهار في الترجمة والقراءة وبدون رحمة". ذكر الجندرية هنا "ظهر من خلال حب الشخصية التي رافقت البطل خلال أسره وتعلقت به حتى ظهر ذلك جليًا وأدى إلى انتحارها بعد ذلك (حب رجل لرجل)، ومن ثم تم الاستفادة من اسمها في رحلة الثأر الأخيرة.

الخط المتوازن المتوازي البطيء تقنيًا، والمؤثث بطريقة تراكمية ظاهريًا، جعلت الفصل الختامي وبكل أجزائه يكشف رويدًا رويدًا كل المفاصل الروائية في جسد الرواية الجميل، والذي كان يتشارك مع فيروزة في نقابها كما في البداية، ومن ثم كشف بالتدريج عن كل مجهول وفسر كل معلومة.

هذه التقنية المتعبة للكاتب والمشوقة للقارئ تبرهن عن جدارة هذا النمط، بالإضافة إلى مهارة واتزان وثقافة الروائي الذي لاحظنا، منذ الصفحات الأولى، أهمية كل معلومة كتبت، فتتبعنا بنهم وانتظرنا التفسير وسُعدنا بالنهاية.

دلالة البرج وأهمية الربط بين الأديان، والذي ذكر على لسان شخصية الأب المحب الطبيب المثقف، صاحب الشخصية الثابتة والمتكاملة والمحبة "وجد ابنه وأورثه المحبة والتسامح والاعتدال دون تطرف أو تبعية، أعطاه ثقافته وعصارة تجاربه برمزية البرج والكتب والرسائل.

في الختام، هذه رواية كبيرة، صُرف فيها الكثير من الجهد والوقت، وكتبت بعبقرية وبثنائيات مميزة جعلت من القارئ مشاركًا في فك الرموز. ببساطة، جعلته قارئ بمشاعره محورها "الغضب والترقب والتفكير والبحث وذرف الدموع والتأسي والتأثر ومن ثم الرّاحة في النهاية".