29-أبريل-2019

حمور زيادة (يوتيوب)

رواية "الغرق: حكايات القهر والونس" (دار العين، 2019) للروائي السوداني حمّور زيادة طبخته المعتادة المتجددة كل مرة يعمل فيها على إعادة رسم الواقع، بدقة ولغة ذات بأس شديد، وأحداث تأخذ خطوة إلى الأمام ثم إلى الخلف، دون أن تقفد حماسك دقيقة واحدة للمتابعة.

الرواية التي اتخذت من القهر والونس عنوانًا لها، جاءت تركيبة موفقة للغاية لما أجاده حمور في روايته السابقة "شوق الدرويش"

اقرأ/ي أيضًا: حمور زيادة.. روح السودان ترفرف فوق السرد

يخدم حمور اندلاع الثورة السوادنية الحديثة، ويستخدم جملًا تقال اليوم في الميادين السوادنية عن انقلاب العسكر وعطشهم للسلطة، ربما لتستطيع أن تقرأ بعقل وقلبِ واعيين لنصِ يوثق في خلفيته التاريخية حقبة من الانقلابات العسكرية في السودان، لكنه ينطلق من أيار/مايو 1969 كتاريخ لبداية الحكاية.

الإهداء لها والرواية لها أيضًا

يُهدي حمور الرواية "لها" دون تحديد لمن تكون، لكن يورد في الصفحة التالية أبياتًا شعرية للشاعرة إيجوما أومبيينيو وهي شاعرة شابة من نيجيريا. الاختيار الذكي للأبيات التي تحدثت عن تفكيك ثقافة الصمت، أظهر الاهتمام المشترك بين الشاعرة والكاتب، وعبر عن لُب الحكاية كما يفعل الشعر دومًا.

"لم أكن أعرف

أن عظام النساء كان مقدرًا لها

أن تكون متحفًا للمآسي

كما لو أننا كُتب علينا أن نحمل البحر

دون أن نغرق"

الرواية التي اتخذت من القهر والونس عنوانًا لها، جاءت تركيبة موفقة للغاية، لما أجاده حمور في روايته السابقة "شوق الدرويش"، أما هذه الرواية فتكثر فيها أسماء الرجال، والطبقات الاجتماعية المتنافسة، والقهر الذي يمارسه السادة على العبيد والإماء. لكن كلما تحددت ملامح الرواية وتكشفت حكايات شخوصها كلما زاد التعلق بالنص أكثر وهي حيلة حمور الذكية في ممارسة الغواية العاطفية على القارئ.

المقهورة امرأة والقاهرة أيضًا

تبدأ الرواية بمشهد الغريقة، أو ما أطلق عليه أهل قرية "حجر نارتي" المكان الجغرافي للحكاية (الجنازة)، وكالعادة في هذه الأمور يجتمع أهالي القرى المجاورة للتعرف على الجثة، ويجتمعون في عريشة "فايت ندو" إحدى إماء القرية اللاتي عانين القهر حتى من امرأة مثلها، وهي "الرضية" زوجة العمدة التي منعت ابنتها الوحيدة من الذهاب إلى المدرسة لأنها تحدتها في الكلام، حين مارست السيدة الحادة عليها التنمر مع نسوة القرية الأخريات. ابنة فايت ندو تلك كان لها اسم جميل وهو عبير، دائمًا ما كان يصفها أقرانها بـ"الكلبة" لممارستها الجنس مع من يريدها من رجال القرية وشبابها ومراهقيها. لكن هل لأَمة في قرية صغيرة يُمارس عليها القهر كما مورس على أمها من قبل حرية الاختيار في الاحتفاظ بجسدها لمن ترغب؟ بل هل لها الحق في أن ترغب من الأصل؟

ظلت عبير مفعولًا بها طوال الوقت، تمنح من يرد نبعها الشهواني نشوة تطير به إلى السماء، دون أن تبالي، لا يوجد في النص كله لعبير حوار طويل حول شيء ترغبه أو ترفضه، فأبوها غير معروف، لكن القرية كلها تدري أنها ابنة لواحد من الكبار ربما ابنة للعمدة أو لأخيه، وتخبرها أمها أنهم أهلها، لكن هذا النسب غير المعترف به لم ينقذها من مصيرها المحتوم، وهو الموت الذي يسبقه القهر، حتى من أقرب الناس لها.. أمها.

العالم الصغير ملوّنًا وضاحكًا

كان العرس عُرس عبد الحفيظ، وكانت تلك لوحة فنية رسمها حمور للونس، فتيات القرية يتأنقن ويرتدين أفضل ما لديهن للفت أنظار الرجال، ويرقصن كما شاء للفلكور والخلاعة أحيانًا أن ترشدهن، وفي حالة الفرح والنشوة الكاملة يقترب منهن الفتية، متجاهلين العُرف المنافق المحافظ في عادته على المسافة بين الجنسين، في تلك الليلة الليلاء، يتسلل عبد الرازق خلف الأزيار ليشرب "العرقي" مع صديقه، لتختار العقارب عجيزته فتقرصها، ويتحول المشهد كله إلى فكاهي ضاحك، خاصة حين تزوره النسوة في العيادة التي حُمل إليها لمواساته ثم ليسألنه "أين قرصك العقرب؟"، فيجيب بتحفظ " خلف الأزيار".

وفي تلك الليلة أيضًا، يغمر أخو العمدة عبير بشهوة جسده المتقدة، وبحِس امرأة خبيرة معتقلة في جسد طفلة، تعرف الفتاة أن جسدها قد يفهم للمرة الأولى هذا الالتحام، وأنه قد تحبل بطفل، فتسأله أن يكون لها شفيعًا أمام أهله لتستطيع الاحتفاظ بطفلها، لكنها لا تدري أن ساعة النشوة يجيب الرجال بنعم تذوبها شمس النهار.

المرأة حارسة مملكة القهر

تقف زوجة العمدة بالمرصاد لهذا الحمل، باسم الحفاظ على العادات والتقاليد، وبأن أولاد الزنا لا يجب أن يعيشوا وسط الحرائر والرجال.

تعبر أم عبير فايت ندو عن القهر في صورة خالصة، حين تعرف بحمل ابنتها، وتقول "نحن وحيدتان ليس لنا أحد"، "ما أهوننا على هذه الأرض/ لا تمنحنا الكرامة/ يلهو بنا رجالها ونشقى/ من أبوك أيها الباكي؟".

هل لأَمَة في قرية صغيرة يُمارس عليها القهر كما مورس على أمها من قبل حرية الاختيار في الاحتفاظ بجسدها لمن ترغب؟

كانت فايت ندو تحلم بأن تدخل ابنتها عبير المدرسة وأن تصبح طبيبة، وبأن تهربا من هذه القرية الظالمة، لكن زوجة العمدة وقفت لها بالمرصاد، وكان عليها أن تدفع ثمنًا أكبر وهو ابن عبير، ابن الزنا، فواقفت ندو على الثمن الذي اعتقدت أنه يمكنها دفعه في مقابل السماح لابنتها بالرجوع إلى مقاعد الدراسة.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "جنّة الخفافيش".. جنوب السودان بحذافيره

أعطته للغجر، لكن عبير لم تسامح أحدًا لا أمها ولا ابنة العمدة ولا أخ العمدة، الذي تخلى عنها، ذهبت نحو النيل، ومنحته روحها، ليبدأ النص بغريقة مجهولة، وينتهي بأخرى ربما حملت ذات القصة بتفاصيل مختلفة، يختلط فيها القهر بالونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "أطياف هنري وِلكم".. صفحات دموية كتبها الرجل الأبيض

4 روايات عربية من الممكن أن تصبح أفلامًا