01-مارس-2019

عبد اللطيف ولد عبد الله (فيسبوك)

من الصعب جدًّا في هذه الأثناء التقرب من الواقع الحقيقي والكشف عن كل خباياه وأبعاده، وحتى إن تواجدنا فيه بطريقة مباشرة، فمسألة غياب الإدراك من المسائل الكبرى المطروحة على ساحة العالم الإنساني، وهذا راجع إلى الكثير من الاعتبارت الأخلاقية والدينية، وقد تطور الأمر في الحالية إلى أشبه من المرض العضوي الذي ينسل داخل أواصل العلاقات بيننا نحن كأفراد، لذلك نحتاج لبدائل تحيي فينا الشعور بالآخرين بعيدًا عن ارتباطاتنا القرابية بهم، ونصبح أكثر تفاعلًا مع قضاياهم وإشكالاتهم السعيدة منها والحزينة، وأعتبر أن الفن من أقرب الطرق التي تؤدي بنا إلى تكرار صورة الإنسان المثالي التي ارتبطت كثيرًا في ذهنيات الجمعي، وبذلك نقدر على أن نتجاوب بشكل إنساني عميق بعيدًا عن الجهويات والمحليات والمذهبيات التي أغربت الإنسان عن إنسانيته الحقة.

الفن من أقرب الطرق التي تؤدي بنا إلى تكرار صورة الإنسان المثالي

احتكاكي بفن الراوية هو من سبيل المتعة وإشباع الفراغ الروحي والزمني الذي أحتاج في الكثير من المواقف لتغذيته، ولقد صادف في الإونة الأخيرة اطلاعي على رواية الكاتب الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله "التبرّج" (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، 2018) التي اقتربت من الواقع النفسي والفلسفي بشكل كبير، الحاملة لفكرة إبداعية. رواية تشعرك بالتقلب والضياع لكن بعيدًا عن التوهان الذي يربكنا في القراءة، أحداثها اقتطاعات مُرضية لبعث حملات على شكل رسائل تنبهية توقظك لركب إنسانيتك. الحوارات تفصيلة مشبعة تحمل نوع من التواجد الشخصي داخل الإطار المعنوي والفيزيقي من خلال نقاط الاشتراك بين الشخصيات. كل فرد جزائري يعاني من صعوبة في فهم هذه المتاهات التي يقبع ضمنها، تحليل الوضع الصحي والأزمة العاجفة الخانقة التي تعاني منها مؤسسات الدولة الصحية، وتعامل الفاعلين داخل هذه التنظيمات المؤسساتية التي تربكك في الكثير من مواقف الشخصيات، وستلمسها بالتأكيد عند احتكاك بأقرب جوار صحي. سيكولوجية المرضى في تحليل الأزمات المرضية والتفاعل مع طبيعة المرض الذي تعاني منه الشخصيات... ولذلك من خلال هذه المقتطفات نستطيع تقسيم الروية لجزئيتين أساستين إعتمدهما الكاتب بشكل جلي هما.

اقرأ/ي أيضًا: لوركا وأغانيه العميقة

فلسفة الإشباع في الرواية

بالرغم من الالتواءات التي تعاني منها الشخصيات في كل المراحل الحياتية، وكل المواقف الصعبة مع المرض وحيثياته وتبعاته العضوية من خلال اقتحام المرض للشكل الجسماني، إلاَ أن الشخصيات داخل الإطار التوقعاتي هي محض الطبيعة التي نتقاسمها مع هذه الشخصيات، وبالتالي يصعب علينا كقراء تحديد وجهة سليمة وقناعية حول ماهية الشعور الذي تحظى به كل شخصية داخل الحيز الروائي، وبالرغم من هذا الإبهام والذي هو ضروري في الكتابة الروائية، إلاّ أننا نجد الكاتب قد أخذ على عاتقه تركيب منهجي يعتمد على الاستقاء من الفلسفة الحياتية اليومية، ولذلك نجد عمق الشخصيات في الكثير من الأحيان والمواقف من خلال تصرفاتهم أنهم أفراد متشبعين بقيم أخلاقية عرقية ثقافية، حيث إن الفكرة هي فكرة تقبل من جهة وتعظيم للمرض من جهة أخرى، فالمرض الذي أصاب الشخصيات هو مرض سوسيونفساني أكثر منه مرضًا بيولوجيًا يصيب أعضاء الجسم فيفقدها قدرتها على التفاعل مع بعضها البعض، والتركيب الاجتماعي من خلال الخطوط الدرامية "الاقتباسية" من الحياة البسيطة، هو جهد فعلي و قدرة على إثارة الحافز التشويقي الذي اعتمده الكاتب في سرده للحوار داخل هذه المنظومة. الوعي الخلاق والضروري موجود بشكل أكسب الرواية نوع من التمرد على الأسلوب المعتمد والمنهجية الكتابية لفن الرواية، حيث تعد الرواية أسلوب فكري توعوي مصبوغ بنوع من الجمالية العلمية، أو ما يطلق عليها في سوسيولوجيا الفن: قوانين الحداثة في كتابة التعبير الروائي بالشكل الجمالي.

فلسفة الإشباع هي الإطار الضروري والمتعمد في كافة فصول الرواية، بالرغم من التجهيزات المسبقة والأحداث الشبه المتوقعة، لكنها في الحقيقة ليست بتلك الأحداث المفزعة التي تقرفك مع الكتاب الذي بين أحضانك وثنايا يديك، وفي مقابل ذلك أراد الكاتب نشر نوع من التقبل المحفور مع فكرة المرض والعالم الآخر التي هي فلسفة تكررت كثيرًا في مستهل الرواية مع إحدى الشخصيات الرئيسية أو معهم بطرق مختلفة وبميزة عبقرية، تجعلك تتخذ معهم القرارات وكأن الذي أصابهم أصابك ونحن لسنا ببعيدين عن ما أحل بهم.

زوايا النظر مكشوفة ومغلقة في نفس الوقت، وهذا راجع لدرجة الوعي الذي يكتسبها الكاتب من خلال تفريغ مكنوناته الضمنية في إطار شخصيات صامتة الى شخصيات حقيقية حية تحمل الوظيفة الكاملة و التقبل مع حاملي المرض.

سيكولوجية القهر في تركيب الشخصيات

"آه" هي الكلمة الوحيدة التي انتابتني عند تعلقي غير الطبيعي بالشخصيات الروائية، ومن خلال كل مرحلة إنسانية، عائلية، استطعت في الفترة الأولى من الاحتكاك بالرواية تقليب المزاج من قارئ مشاهد الى فاعل معاش، وهو الأسلوب المبهر في السرد والطريقة المزاجية التي تحولك من شخص سليم نفسيًا الى مصاب بأعقد تشكيلة شعورية قد تصيبك يوما ما، عند الانتهاء من الرواية استغربت شعور الذي رافقني طوال قراءتي للرواية – وبالرغم من أنني لم أستغرق فترات طوال – في التفحص الفني والاستمتاع الوجداني والتألم العقلي والذي تعد أصعب مراحل الإذابة مع نص روائي قد يصل اليها الإنسان يومًا، وسأعترف بأني أصاب بهذه النوبة من التعقيد مع روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، إلاَ أن رواية عبد اللطيف ولد عبد الله قد ارهقتني نفسيًا بشكل مرعب.

لنتحدث عن الشخصيات شديدة التعقيد من خلال التركيبة النفسية التي هي صنع إنساني، جسّدها الكاتب بطريقة احترافية بكل تفصيلة مع المريض وذاته هي نفسها علاقتنا بذواتنا، فالكاتب شخص واحد والاحتراف كله هو تصوير ثلاث شخصيات مختلفة عن طبيعة الكاتب، فهم من بيئات متفرقة حاملين لثقافات وإدراكات أقل ما يقال عنها أنها غرائبية (داخل التكوين المجتمعي) أي مع بعضها البعض، ولذلك يصعب على الشخص أن يحمل بنفسه شعور الآخرين وهذا هو التحدي في الرواية.

القهرية الشديدة كانت من المبالغات داخل الكيان الروائي، لكنها لم تُخل أبدًا بعلاقة الشخصيات مع بعضها البعض أو حتى بعلاقاتهم وانتمائهم إلى ذواتهم، فالتفاصيل الكثيرة قد كرست في بعض الأحيان لتكرارات كان مقدرًا الاستغناء عنها أو التقليل منها، وبالرغم من هذه التفصيلة إلا أن الكاتب لم يرد بها الإطالة في اعتقادي. الطبيعة البشرية في العموم تعاني من الضعف والهوان وحتى وإن تظاهرت بالقوة والكبر، إلا أن الشخصيات في الرواية حملت هذه التكريسة وقد أظهرتها فعلا بأسلوب ممنهج، واعتماد على البحث النفسي القهري الذي يرغمك في اكمال الرواية بطريقة سريعة على قدر الإمكان لكي تبتعد عن التأثير النفسي، وخاصة مع أصحاب الإحساس المرهف والعاطفة الجياشة، خاصة فيما يتعلق بأمور الصحة ومشاكل العجز.

"التبرج" لعبد اللطيف ولد عبد الله رواية للفكر وليست للعبث، رواية للحقيقة وليست للتزييف

مساحات من المتعة قليلة، ولكن تم تعويضها بشكل مكثف بمساحات أكبر من الاستيعاب للمحيط (الفردي – الاجتماعي) حول أشخاص أصيبوا بعلل عضوية أو اعتلاجات اجتماعية، بمعنى أن أسلوب الوعي قد خيم على المنظور العام للرواية، وبالرغم من أن التبرج هي الرواية الثانية للكاتب، إلا أنه استطاع أن يملأ من خلال هذه الرواية الفراغ الذي اصاب الروايات ذات العمق الفلسفي والنفسي، وأن يبعث لكتابة حقيقية في هذا المجال والمحفل الفني.

اقرأ/ي أيضًا: قصص "همس النجوم".. نجيب محفوظ بلا دهشة

اعتمدت عدم الإطالة في السرد لتجنب حرق الأحدات والكشف عن غطاءات الشخصيات المركبة بشكل مغرٍ، ومعناه الحقيقي في وسمها والذي سأمتنع عن الإجابة عنه في كل مرة سيتم سؤالي فيها.

"التبرج" رواية للفكر وليست للعبث، رواية للحقيقة وليست للتزييف، رواية للحياة وليست للموت. رواية تستحق أن تُقرأ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"السلْبُ" لرشيد بوجدرة.. محوُ ذاكرة الألوان

الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش