30-يناير-2018

ميلان كونديرا

ألقيت اللوم على نفسي كثيرًا لأنني لم أقرأ لهذا الرجل من قبل.

ميلان كونديرا روائي وفيلسوف وشاعر فرنسي من أصول تشيكية، تردّد اسمه على سمعي كثيرًا في الآونة الأخيرة حتى قررت قراءته، وبدأت بروايته السابعة "البطء"، وهي رواية صغيرة من حيث الحجم، مهولة من حيث كمّ الأفكار التي تطرحها، لم أشعر أنني أقرأ رواية، بل فصولًا متفرقة من حيوات مختلفة لبشر كثر في عدة أزمنة، وفي كل مرة يطرح ميلان كونديرا فكرة فلسفية توقد العقل ولا تخمده، وصورًا إبداعية تمس القلوب، وحين بحثت وراءه وجدت أنه بدأ كتاباته كشاعر، فلم أتعجب الصور الإبداعية الكثيرة في كتاباته، كيف لرواية بهذا الصغر أن تحمل هذا الكم من الأفكار والصور والجماليات، قصيدة نثر طويلة متلاحمة تتخفى في ثوب الرواية.

بما أن اللّذات تحمل في الغالب من الشقاء أكثر مما تحمله من السعادة، فإن أبيقور لا يوصي إلا باللذات المحترزة والمعتدلة

تتحدث الرواية بشكل أساسي عن المفارقات بين البطء الممزوج بالمتعة والذي يصنع الذكريات، ونقيضه ذلك العالم السريع الذي يُنسى، الذي يفقد الإنسان لذة كل شيء، لذة صُنع الذكريات، ويستعرض كونديرا في روايته كيف تختلف العلاقات العاطفية في البطء أو العجلة وأيهما أصلح وأبقى.. كيف ندير علاقاتنا الحميمية؟

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

يقول كونديرا: "ثمة وشيجة سرية بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان، لنذكر بهذا الصدد، وضعية قد تبدو عادية للغاية، رجل يسير في الشارع، ثم فجأة يريد تذكر أمر ما، لكن الذاكرة لا تسعفه، في تلك اللحظة، بطريقة آلية يتمهل في الخطو، أمّا من يسعى إلى نسيان طارئ شاق وقع له توًا، على العكس يُسرع لا شعوريًا في مشيته. في الرياضيات الوجودية، تأخذ هذه التجربة شكل معادلتين أولويتين؛ تقوم الأولى على تناسب درجة البطء مع حدة الذاكرة، والثانية على تناسب درجة السرعة مع حدة النسيان".

ثم في خضم أحداث الرواية يطرح فكرة مغايرة عن مفهوم اللذة في إطاره الأخلاقي، مستعينًا بالفلسفة الأبيقورية مفرّقًا بين اللذة والرذيلة، واضعًا اللذة في قالب تشاؤمي ضيق حيث يضع تعريفًا للذة كنقيض للألم، فمن لا يتألم فهو بطبيعة الحال يشعر باللذة!

يقول كونديرا إن "السائد بوجه عام أن مفهوم مذهب اللذة يعني نزوعًا لا أخلاقيًا نحو حياة المتعة، إن لم نقل الرذيلة. هذا طبعًا مجانب للصواب، فأبيقور، أكبر منظّري اللذة، فهم الحياة السعيدة بارتياب تام، إذ رأى أن من يشعر باللذة هو من لا يتألم، الألم إذًا هو الفكرة الأساس لمذهب اللذة. يكون الإنسان سعيدًا عندما يعرف كيف ينأى عن الألم، وبما أن اللّذات تحمل في الغالب من الشقاء أكثر مما تحمله من السعادة، فإن أبيقور لا يوصي إلا باللذات المحترزة والمعتدلة. للحكمة الأبيقورية خلفية كئيبة، إذ ترى أن الإنسان تيقّن، لمّا زُجّ به في بُؤس العالم أن اللذة هي وحدها القيمة الحقيقية والثابتة التي يمكنه هو نفسه أن يشعر بها مهما كانت صغيرة؛ مثل جرعة ماء عذب، نظرة صوب السماء (صوب نوافذ الرب)، مُداعبة".

وبالرغم من أن ميلان كونديرا في الأساس ينتمي إلى أصحاب الفكر اليساري إلا أن هذا لم يمنعه من فضح بعض السذاجات اليسارية ومعارضتها وتعريتها للقارئ، أفعال خائبة لا فائدة حقيقية منها، أفعال يُمكن وضعها في خانة المراهقة الثورية أو الطفولة السياسية، فيشير كونديرا في إحدى فقرات روايته البديعة إلى حادثة في السبعينات من القرن الماضي "أتذكر مواكب اليساريين الألمان في السبعينيات الذين كانوا كلما أرادوا التعبير عن غضبهم تجاه شيء ما، تجردوا تمامًا من ملابسهم في مسيرة صاخبة تشمل مختلف شوارع مدينة ألمانية كبيرة. عمّ كان يُعبّر عريهم؟ الفرضية الأولى: كان يُجسّد، في نظرهم، أغلى الحريات، القيمة المهددة أكثر من بين كل القيم، لقد اخترق اليساريون الألمان المدينة بأعضائهم الجنسية المكشوفة مثل المسيحيين المُضطهدين، الذي كانوا يُقادون إلى الموت حاملين على أكتافهم صليبًا من خشب. الفرضية الثانية: لم يكن هدف اليساريين الألمان أن يعرضوا لرمز قيمة ما، بل كانوا ببساطة ينوون إحداث صدمة لدى الجمهور المقيت، أن يصدموه ويفزعوه ويثيروا غضبه، أن يقصفوه بروث فيل، ويصبّوا عليه كل مياه الكون العديمة. إنه مأزق غريب، فهل يرمز العري إلى أكبر قيمة بين القيم؟ أم إلى أكبر قاذورة تُلقى مثل قنبلة غائط على حشد من الأعداء؟".

ويضيف رأيه بوضوح على لسان بطل روايته في فقرة تالية: "أمّا أنا فأرى أخيرًا عريًا لا يرمز إلى أي شيء، لا إلى الحرية ولا إلى القذارة، عريًا مجردًا من كل دلالة، عريًا عاريًا، كما هو، خالصًا".

ميلان كونديرا: ما أبهى أن يقال لك: أنا مجنونة بك وإن لم تكن ذكيًا ولا نزيهًا، مجنونة بك، وإن كنت كذابًا وأنانيًا ودنيئًا

اقرأ/ي أيضًا: كيف جئتُ إلى الرواية؟

وفي أحد المقاطع أيضًا يتطرق إلى مفهوم الاصطفاء، ويتحدث عنه باستفاضة ضاربًا مثالًا واضحًا بالحب والعلاقات العاطفية، وكيف أن الاصطفاء الإنسان يصطفي حبيبه بدون قواعد منطقية "الإحساس بالاصطفاء حاضر مثلًا في كل علاقة حب، لأن الحب في تعريفه، يعني هدية غير مستحقة، بل هذه الهدية هي أساسًا الدليل على حب حقيقي، إن امرأة قالت لي: أحبك لذكائك ونزاهتك وإخلاصك، لأنك تخصّني بالهدايا، وتغسل الأواني، أصاب بالخيبة، لأن هذا الحب تحكمه المصلحة. بالمقابل، ما أبهى أن يقال لك: أنا مجنونة بك وإن لم تكن ذكيًا ولا نزيهًا، مجنونة بك، وإن كنت كذابًا وأنانيًا ودنيئًا".

رواية "البطء" بمثابة رحلة قصيرة في عالم غير إنساني يطرحه كونديرا من ناظره، حياة تفتقد إلى اللذة والسعادة والتأمل في مقابل الانتصار للسرعة والتطور والراحة الجسدية، بشر يسعون نحو فقدان ما يميزهم بالإنسانية يومًا بعد يوم ظنًا منهم أنهم يتبعون الطريق السليم، أفكار تومض في العقل دون إجابة واضحة، وبذور عديدة يذرعها كونديرا دون أن يحصدها لتكبر في عقل القاريء تبعًا لأرضية كل عقل منّا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حفلة التفاهة

أورهان باموق.. من مطبخ الكتابة