01-أغسطس-2018

مهند الدابي

للناقد الأدبي الأمريكي ستيفن غرينبلات مقولة شهيرة وهي أن "التاريخانية الجديدة تميل إلى الانفتاح على تاريخ الأفكار مع التمعن في السياق التاريخي الأدبي الثقافي، لتقديم مقاربات تنتقد وتفضح سياسات الهيمنة الإمبريالية". لكن الوجه الغالب للمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد هو الاستشراق الذي تشكّل وفقًا لأسس الفكر والتوجه الغربي، وأنه "تحيز دائم وماكر من دول المركز الأوروبي تجاه الشعوب العربية الإسلامية". فيا ترى هل كتب مهنّد الدابي رواية تاريخانية كولونيالية مُلْغزة ومُعقدة لأجل كشف الوجه الأكثر قبحًا للاستعمار والهيمنة الإمبريالية؟

رواية "أطياف هنري ولكم" للروائي السوداني الشاب مهنّد الدابي، تحكي سيرة مُتخيّلة لإمبراطور الصناعات الدوائية السير هنري سولمون ولكم

رواية "أطياف هنري ولكم" للروائي السوداني الشاب مهنّد الدابي، صدرت هذا العام في 470 صفحة عن "دار فضاءات"، وهي تحكي سيرة مُتخيّلة لإمبراطور الصناعات الدوائية السير هنري سولمون ولكم، بوجهه الأمريكي البغيض، عندما كان قاتلًا في صفوف سلاح الفرسان الذي سعى وراء قتل الهنود الحمْر وتدمير قراهم وإبادتهم كليًا. الأمر الذي يبرز مدى وحشية الحرب الهندية والتمدد الاستعماري الغربي، وعبر شخصية البطل ننظر ببطء إلى اليهودي اليديشي الفظ، النموذج المثالي للهيمنة والاستغلال والانتهازية، كأنما أراد أن يقول لنا الدابي: إن السياسات التقدمية الغربية التي تجلّت أطماعها الاستعمارية فيما يُسمى الآن بأمريكا قد لاقت نجاحًا في الأفكار الخطابية التحريرية التي أصبح العالم ينادي بها حتى اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: صباح سنهوري: ستغمر المحبة العالم

عبر راوٍ متقمص للشخصيات، يروي مهند الدابي حكاياته المليئة بالدسائس والألغاز الماكرة والمؤامرات والحيل الفيكتورية التي أفرزت للعالم أكثر من وجه دموي بشع وقاتل، ملتقطًا صورة الحملات التبشيرية والتسامح الكنسي والثورة المعرفية كونها لم تكن سوى ألاعيب إضافية لتغطية السلوك الاستعماري، وأن المُستعمرات لم تكن إلّا أقفاص كبرى للتجارب على البشر، "فئران القرن العشرين" كما اعتبرهم الاستعمار للأسف الشديد.

في هذا الخصوص، يتعرض مهند الدابي إلى تاريخ بناء مدرسة غردون التذكارية – جامعة الخرطوم حاليًا- ويصف لنا كيف أن هنري ولكم موّل بناءها تنفيذًا لمشروع كبير لأبحاث الأمراض، ثم يتواصل الهوس مع تواطؤ الإداريين الحكوميين في السودان وبريطانيا إلى أن يصل هنري ولكم للتنقيب عن الآثار في منطقة جبل مويا الآثرية، بل والتجارب القاسية التي أُجريت على الأطفال هناك، وكيف كانوا ضحية رخيصة للوحشية الاستعمارية الساعية للتقدم في العصر الذهبي للصناعة والعهد الفيكتوري.

ولكُم والرعاية المبكرة للصهيونية

كما تطرق مهند الدابي إلى مفهوم الاستعمار العميق والتوغل السافر في الوعي القومي للسودانيين آنذاك، بتأكيد أن الرجل المتقدم والناجح هو الرجل الأوروبي، وأن صناعة رموز تلوذ بها الجماهير الثائرة أمر ضروري لتقدم الأفكار والأطماع. يطرح مهند الدابي أيضًا نظرية جديدة لقضية قديمة "جاك السفّاح" إذ يتهم هنري ولكم بأنه القاتل (ص 127)، ويرسم سيناريو لظروف مقتل عاهرات وايت تشابل أفقر أحياء جادة لندن، بزعم أن التقدم العلمي أهم من ضحايا التجارب الطبية، وبهذه الخصوص نجد وحتى يومنا هذا أن مؤسسة ولكم هيّ ثاني أكبر مؤسسة في العالم لرعاية البحث العلمي، ثم ننتقل إلى مؤامرة أخرى وهيّ الظروف التي ساعدت على قيام دولة اليهود في فلسطين، وكيف أن رجلًا مثل هنري ولكم كان له دور كبير في دعم وتنظيم مؤتمر الصهيونية العالمية تمهيدًا لما يُسمى اليوم بإسرائيل، وخلال الخطاب السياسي في حوارات الرواية يستشرق مهند الدابي الدونيّة التي كان يُنظر بها إلى المنطقة العربية.

أطياف هنري ولكم

نجد في رواية مهند الدابي التي استلهمت العهد الفيكتوري بمجمل تفاصيله وثورته الابداعية أحد أبرز الروائيين عندها، سومرست موم، الذي يجسد في الرواية دور الطبيب الذي يحاول كتابة المسرحيات والروايات مع الكثير من حكاياته الخليعة. وترصد الرواية علاقته مع زوجة هنري ولكم الجميلة سيري برنادرو، والتي كانت تهيم عشقًا بالشاعر أوسكار وايلد، وهنا أسفر مهند الدابي عن الوجه الآخر للعهد الفيكتوري، في شكله الجمالي التعبيري الذي يستمد وعيه من فلسفة الأخلاق جملة، وهو ما يمثل التناقض بين الأفكار الرسمية للدولة الفيكتورية تجاه مستعمراتها وما بين رموزها الفنية الذين لم يكونوا بذلك القدر من الإهتمام بالمواضيع التي لا تعنيهم، فمثلًا نجد في الرواية أن أوسكار وايلد كان مناضلًا لأجل تحرير الإقطاعيات في إيرلندا وتمكين حكمها الذاتي، في الوقت الذي تبرز فيه الحقوق العالمية والحس التطوعي للفن، كأنما يقول مهند الدابي إن الفن أداة أخرى في أيدي السُلّطة التي لا تعترف بالحقوق المدنية والإنسانية للبشر من خيرة العصبة البيضاء!

المُستَعَمر الجيد هو الجاهل

يطرح مهند الدابي السؤال الوجودي الأكثر براةً "ما هو مستقبل المستعمرات؟ وكيف أستهلكها المستعمرون؟"، وقد أجاب خلال الحوارات الشيقة بين رجالات وجنرالات السياسة والحرب في بريطانيا على السؤال الذي يعود به إلى مقولة في بداية الرواية "الهندي الجيّد هو الهندي الميت، والمُستَعَمر الجيد هو الجاهل".

ثم يعود مهند الدابي في رواية "أطياف هنري ولكم" ليسأل من جديد: هل الإمبريالية الأمريكية كانت نواتها عقول العصر الفيكتوري والجورجي، هل هم بناة أمريكا الحقيقيون أم اليهود الذين خدعتهم الكنائس بادعاء أن أمريكا هي أرض الميعاد؟ ثم يفاجئ القارئ من جديد بمفهوم أن الهيمنة الأكثر لطفًا ستنقذ العالم من المرض والجهل، مثل أن تقتل الآباء ثم تعلِّم الأبناء كره أولئك الآباء.

تطور البحث العلمي الأوروبي بإجراء تجارب علمية لا إنسانية على البشر في المستعمرات

تقع رواية "أطياف هنري ولكم" في ستة أجزاء و48 فصلًا، وتتخذ أسلوبًا كلاسيكيًا رصينًا في الشكل واللّغة، لكن التجريد الفريد كان في الراوي الذي تقمَّص شخصيات سيده، كما كان يتذكر أو يعتقد، وقد سمحت تلك التقنية الذكية تقديم بعض الأحداث من جانب شخصي مثل طقوس تعميد الماسون، وأنشطة الماسونية في تلك الفترة، كما شرحت بشكلٍ كافٍ أيضًا الحالة النفسية لهنري ولكم، والتحولات والأزمات التي كونت شخصيته الغرائيبة المكتنزة بالعجائب والأساطير والفنتازيا، وببراعة الأخذ يرشق الدابي صوت الراوي نهاية كل عدة فصول ليذوبه في مصيدة راوٍ جديد، ينتفض عنها راوٍ آخر يحاكي أسلوب الراوي الأول وهكذا، لتسير الرواية في خطين، الأول للأحداث والثاني للرواي ومتاهته السردية.

اقرأ/ي أيضًا: مانفستو الديك النوبي.. قراءة لعنة التاريخ

تطرح رواية "أطياف هنري ولكم" الأسئلة المُحيرة؟ والتي يخشى الجميع الإجابة عنها أو مواجهتها بالمرة، وتفتح النار على جبهات مختلفة إذًا، وتتهم التقدم العلمي والسياسي والطبي والصناعي بإستغلال العالم الفقير الذي كان البطل جزء منه ذات عهد مرير، عندما كان طفلاً في أحد مناطق الغرب الأمريكي الأوسط.

رواية "أطياف هنري ولكم" استغرقت من المؤلف الشاب مهند الدابي حوالي خمس سنوات في كتابة مرهقة متواصلة، افتضحت من شرفة الأدب فظائع الاستعمار الخفية، وحقيقة ما فعله هنري ولكم في أطفال جبل مويا، ضحايا تجاربه البشرية الأكثر بشاعةً من تفاصيل الرواية، وربما كان مثيرًا القول إن رواية "أطياف هنري ولكم" تستند إلى أحداث حقيقية وقعت في الفترة بين 1853-1936.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حمور زيادة.. روح السودان ترفرف فوق السرد

الرجل الخراب.. أسئلة الهوية