15-مارس-2022
منصورة عز الدين وروايتها (ألترا صوت)

منصورة عز الدين وروايتها (ألترا صوت)

تؤسس منصورة عز الدين روايتها "أطلس الخفاء" (دار الشروق، 2022) على بضع تفاصيل يومية، متباعدة زمنيًا، ومشاهد متخيلة وأخرى مستعادة، وأخبار هي، جمعيها، كل ما يصلنا من سيرة بطلها مراد، الذي تضعنا الكاتبة المصرية، سريعًا، أمام أكبر مخاوفه، وهو خوفه من تقاعده الذي سيجعل من حياته، في نظره، يوم جمعة دون نهاية لم يفعل فيه شيئًا، في السابق، سوى التفكير في ما سيكون عليه شكل حياته بعد التقاعد، الذي نجح في تأجيله أكثر من مرة.

لا نعثر في الرواية على ما يفسِّر عزلة بطلها، كما أن الأحداث التي يستعيدها من ماضيه لا تبدو، رغم قسوتها، سببًا كافيًا لتفسيرها

نتعرف إلى مراد في يوم جمعة نفهم من خلال طريقته في قضائه، سبب مخاوفه من التقاعد. وهي مخاوف تبررها عزلته ونمط حياته الذي يقوم على التقشف والاقتصاد في كل شيء، وينحو باتجاه القلة التي يسعى مراد إلى الحفاظ عليها بطريقة نشعر أمامها بأنه قد يضيع إن اتسعت حياته وتجاوزت حدود منزله ومكان عمله. لذلك لا تبدو عزلته مصيرًا بقدر ما هي خيارًا لا نفهم أسبابه. 

لا نعثر في الرواية على ما يفسِّر عزلة بطلها. الأحداث التي يستعيدها الأخير من ماضيه لا تبدو أيضًا، رغم قسوتها، سببًا. بل إنها لا تبدو أكثر من أخبار أو عناوين عريضة لماضيه، الذي لا يحضر إلا من خلال حادثتين: رفض جدته ووالدته لزواجه من عشيقته وردة، وهروب شقيقته مع عشيقها.

تختزل هاتان الحادثتان ماضي مراد لكنهما لا تفسّران، مع ذلك، أسباب عزلته. ذلك أنهما لم تمنعاه من خوض تجربة الزواج التي استمرت قرابة 10 سنوات، وانتهت بطلبٍ من زوجته بسبب إصراره على عدم الإنجاب. إضافةً إلى أنهما تحضران دون تفاصيل قادرة على توضيح أثرها عليه.

YT Banner

تترك قلة الأحداث وندرتها في حياة مراد اليومية، إضافةً إلى غياب تفاصيل ما يستعيده من ماضيه، فراغًا تملؤه تجلياته/ تخيلاته التي تمليها عليه مخيلته، دون أن يكون هذا غرضها. ورغم أنها متخيلة، إلا أنها لا تبدو منفصلة عنه وعن حياته. صحيح أن لها مناخًا خاصًا بها، وأسلوب تُروى من خلاله، لكنها تبقى جزءًا من مراد. بل إنها تبدو طريقته في قول ما يعجز عن قوله، أو طريقته في استعادة ماضيه، قريته وجدته ووالدته وشقيقته ووردة اللواتي يحضرن في تجلياته هذه ضمن سياقات جغرافية وزمنية مختلفة.

يدوِّن مراد ما تمليه عليه مخيلته في دفتر يركز فيه على جغرافيا ما يتراءى له من أمكنة ليست متخيلة تمامًا، لكنها لا تبدو واقعية أيضًا. فما يراه، غالبًا، أمكنة ووجوه يعرفها ولكن في غير مواقعها. هكذا يصير من الصعب القول إن غايته من تجلياته هي الهروب من واقعه الذي لا يوجد فيه ما يستدعي الهرب، أو حتى بناء عالم مواز لعالمه، ذلك أن الأخير نفسه يبدو عالمًا موازيًا منفصلًا عن الواقع والزمن، الذي يقول زملاؤه في العمل إنه يعيش خارجه.

العالم الذي كوّنه مراد لنفسه، ويعيش فيه، يبدو قائمًا على المحو. مسار حياته وشكلها وطريقته في عيشها أيضًا، توحي بأنه تأسس على محو ما يحيط به، والتعامل معه إما من خلال الذاكرة أو المخيلة فقط. هجره لقريته واختياره العيش في المدينة، بعيدًا عنها وعن عائلته، يعادل محوها. تدريب نفسه على التعامل مع زملائه في العمل على أنهم غير موجودين من حوله، يعادل محوهم أيضًا. وكذلك رفضه الإنجاب وانفصاله عن زوجته.

لا يبقى لمراد في عالمه هذا سوى نفسه، ذاكرته وماضيه الذي يتضح، شيئًا فشيئًا، أنه أصل الرواية. ليس ماضيه بوصفه مجموعة حكايات وتفاصيل وأحداث، بل عناوين عريضة وأخبار وخلاصات ما حدث وما ترتب عليه. ما يعني أن كل ما حدث لمراد إنما حدث في ماضيه. أما حاضره، فلا يزيد عن كونه مجرد أيام تمضي، بعد التقاعد وقبله، دون أحداث تُذكر.

العلاقة بين تخيلات مراد وماضيه تثير عند القارئ تساؤلاتٍ مختلفة حول غايتها ومعناها في حياته وفي الرواية. وهي تساؤلات تضاف إلى أخرى يراكمها سلوكه وتصرفاته التي لا نقع على ما يبررها. هروب شقيقته مع عشيقها، واستسلامه لرغبة والدته وجدته بشأن زواجه من وردة وتخليه عنها، ليسا كافيان لتبريرهما. غياب التفاصيل هو ما يجعلهما كذلك. ما يعني أن هناك ما هو مخفي من الرواية، ما تم محوه وحذفه منها، أو ما لم يقله مراد الذي يكتفي بالخبر دون تفاصيله، أو بأقلها.

يثير غياب تفاصيل ما يستعيده مراد من ماضيه شكوك القارئ وحيرته أمام انطباعات مختلفة، وتفسيرات عديدة لسلوكه وعزلته وخوفه من الوفرة والاتساع. في المقابل، يثير سلوكه وعزلته ونمط حياته بعد تقاعده لا شكوك الآخرين من حوله فقط، بل يجعلهم أيضًا على قناعة بأنه يحتاج إلى مصحة نفسية، بل إن بعض جيرانه رأى فيه خطرًا عليهم.

تؤسس عز الدين روايتها على بضع تفاصيل يومية متباعدة زمنيًا، ومشاهد متخيلة وأخرى مستعادة، وأخبار هي كل ما يصلنا من سيرة بطلها

تشي نهاية الرواية بأن تجليات مراد وتخيلاته ليست سوى ماضيه، ولكن في سياقات جغرافية وزمنية متخيلة ومختلفة. إنها، ربما، طريقته في استعادة أماكنه ووجوهه بشكلٍ غير مباشر، بل وملغّز أيضًا. ذلك أن ما يستعيده من ذلك الماضي هو أخباره فقط وليس تفاصيله التي تعمد محوها.

المحو في الرواية يبدو أسلوبًا يمكن القول عنده إن ما يبقى من "أطلس الخفاء" هو ما لم يظهر منها، أو ما ظل مخفيًا من سيرة مراد الذي لا نعثر في الأصل على سيرته كاملةً، بل على أخباره التي تختزل مراحل حياته. بوسعنا القول أيضًا إن تجليات مراد، إضافةً إلى ما سبق، محاولة للقبض على الوقت، أو جعله ملموسًا على الأقل.