13-مايو-2020

أوغيت خوري كالان/ لبنان

كنت أشعر أحيانًا كثيرة أنني أتنقل بدون رأس، مع أنني كنت أشعر دائمًا بثقل دماغي على كتفيّ. رافقتني فكرة جنونية كون رأسي هو عبارة على فم يتوسط كرة لحم بشريّة، لذلك لم تكن علاقتي بالأفواه علاقة عاديّة. فكلّ ما كان يجذبني إلى الأشخاص هو شكل وحجم أفواههم، وإلى عدد الأسنان الظاهرة وشكل الانحرافات التي تتخلّلها. كثيرًا ما كنت أرى الأشخاص بدون أجسام، كنت أرى مجرد رؤوس مكورة يتوسطها أفواه كبيرة مسنّنة. رسمت في طفولتي رؤوسًا - أفواهًا كثيرة وأطلقت عليها أسماء وألقاب لا تُحصى. استمرّت معي عادة رسم الرؤوس المسنّنة إلى زمن قريب خلال سنوات الجامعة والتدريس. ساعدتني رفيقتي "ك" على التخلّص من هذا الهوس والتركيز على حالة الإغماء التي تصيبني أثناء ثرثرتها الطويلة والمزعجة. كنت أنظر إليها مطوّلًا وأحاول محو شفاهها المتحرّكة، أتخيّلها بدون فم أو أسنان وبدون صوت.

*

 

اكتسبت أختي الكبرى "أ" أسنانًا صغيرة مصففة وابتسامة رائعة جراء تضحيتها لسنتين متتاليتين بتركيب مقوم أسنان طبي. عانت في مراهقتها من عقدة أسنانها غير المرتبة، وعانينا نحن إخوتها من نُدوب عديدة على أجسادنا جراء تلك العقدة. لا يتعدى الفرق بيننا السنة الواحدة، وبينما كنت أنا صاحبة الفم الصغير المغلق كانت أختي "أ" هي الفم الكبير المفتوح، وكانت تستعمله بوحشية إما لتصرخ أو لِتَعُضّ. يعود الفضل كله لأختي "أ" لكوني أرى أفواهًا بدلًا من الرؤوس والأجساد. خسرت أختي سلاحها الجبار عندما اشترت حلمها بالابتسام دون وضع يدها اليمنى على فمها. أصبحت تبتسم كثيرًا ولم تعد قادرة على العض. كانت ابتساماتها عاجزة على نقل الحب بنفس طريقة عضاتها، لذلك كلما كنا نتشاجر أقرر أن أعض سبابة يدي اليمنى لأهدأ. افتقدت لمدة طويلة أسنانها المتراكبة الحادة. وهي بدورها ابتكرت صفة "çina" لتنعت بها نفسها تعويضًا منها عن فقدها. اعتبرتْ ذلك الوصف تصغيرًا لكلمة أسنان. ابتكرت لي ولأختي "ن" أيضًا أسماء على نفس الوزن، أطلقت علي صفة"dida" ، وعلى أختي "ن" صفة "icha". خلقت لغة سرية بين ثلاثتنا. أصبحنا لاحقًا نتندر كثيرًا بتلك الصّفات ودائمًا ما تتباهى أختي "أ" بابتكارها الرهيب. تصرّ على أن تكون الحروف لاتينية وتدعونا إلى عدم فكّ الصفات الثلاث واستعمالها في جملة واحدة، ثم الرجوع إلى القاموس، "أيّ قاموس". تقول إن اللغة وجدت لتفك ألغاز الحياة وتبرهن أن كل ما يصدر عن الفم له معنى عميق، وأن لسانها لا يعبث مطلقًا بالكلمات. تُفَضِّل أن ترُكّب جملتها بالترتيب التالي "d'Ida 1, icha 2, çina 3" وتتصرف كما لو أنها ملكت سر خلق العالم.

*

 

تمتلك أختي "ن" فمًا واسعًا ذا شفاه رقيقة وأسنان أمامية نافرة قليلًا. نستعين غالبًا بلسانها السليط لحل مشاكلنا الأنثوية العالقة. أنهت بكلماتها القليلة الواضحة والمذلّة علاقتنا مع الفيروس "س" وعائلته. هي مستعدة لافتراس العالم برمته بمجرد كلمات. أؤمن أنها تمتلك عدة أفواه، على الأقل أربعة بخلاف ذلك الذي تأكل منه. فم المشاعر، فم الحكمة، فم الاستجواب، وأهمها الفم الذي لم يره غيري: فم مؤخر عنقها.

خلال مراهقتنا كانت "ن" تمنعني من مرافقتها في طريقنا للذهاب إلى المعهد. تكره أن أؤخرها عن متعة تحية العلم، وأُفوّت عليها فرصة رفع الراية إلى السماء. تحمل معها حلمًا طفُوليًّا بالتحليق نحو الأعلى لذلك تنطلق "ن" مسرعة من البيت كل صباح. أُصرُّ بدوري على الركض خلفها لاهثة. أتتبع تسريحتها على شكل ذيل حصان يتأرجح بانتظام كرقاص ساعة حائطية. تتخدر كل حواسي في لحظة ما ولا أعود أرى سوى ذلك الفم المتخفي رأسيًا خلف رقصات شعرها. غالبًا ما كنت أتخيل نفسي واقفة على طرف ذلك الفم مستعدة للقفز داخل رأس "ن". تمنعني التفاتة أختي المؤنّبة ووصولنا إلى باب المعهد متأخرتين، من جديد، عن استكمال قفزتي إلى الروح. تمط "ن" شفتي "الاستجواب" وتطلب مني بصرامة ألا أُسمعها سيناريو خيالي جديد فهي "لن تضحك". أسير معها بعض خطوات ثم أبدأ في تصور مشهد مسرحي خياليّ بيننا وسط الساحة الكبيرة وتحت الراية بالتحديد. صنعتُ معها طوال سنوات مشاهدَ للرقص والشجار والنصر والهزيمة. كانت "ن" تُصرُّ دومًا على أهمية لحظة الاصطفاف الجماعي ورفع راية العلم نحو الأعلى. بينما لم أكن في حاجة إلى رفع رأسي لتتبع العلم وترديد النشيد ببلاهة. كنت أحيد دومًا عن الصفوف بطرق هادئة وغير مرئيّة، ولا أسمح إلاّ للقلّة بدخول عالمي الصاخب. لم تعنيني يومًا تحيّة العلم أو حضور المناسبات والاحتفالات، كنت أَتَقصَّد تفويت كل ذلك حتى أرى "ن" تستسلم لضحكاتها كل صباح بعد أن تستمع لقصصي الخيالية. يأمرني فم حكمتها بالتعقل، ويقول لي فم مشاعرها كم تحبني، ويقسم فم الاستجواب أنها "لن تنتظرني غدًا صباحًا فهي ستحضر تحية العلم". أشاهدها كل صباح تبتعد صوب صفّها وأبحث عن فم ذيل الحصان لأُوَدّعه على أن ألتقي به في الغد ليلهمني قفزة جديدة نحو السّاحة وتحت الراية بالتحديد.

*

 

في الماضي، تعودت أنا وإخوتي أن نبدأ نهارنا بالسؤال عن مكان تواجد غاليتنا "ش". ننهض واحدًا تلوى الآخر ونحن نناديها "ياااااا"، ذلك المقطع اللفظي الذي يعني أمّي. يجيبنا صوتها ليطمئن العالم داخلنا. باستطاعة صوت أمي أن يغنينا عن كل مشاغل العالم. يشبه فم أمي مغارة علي بابا أين يمكن أن تخبأ كل كنوز العالم. سقطت كل أسنان أمي الخلفية منذ زمن بعيد. يسيطر فمها على كامل وجهها، أو هكذا كنت أراها: وجه بفم واسع مع ثمانية أسنان أمامية فقط. تُصْدر أسنان أمي، على قلّتها، الصوت الأكثر غرابة في العالم: صوت الأكل الشهي. أعتقد أنها قادرة على معالجة مرضى "الجوع" وهي تصدر أصواتها العجيبة أثناء مضغها لأي طعام. الأمر الرائع أننا كنا نجهل ماذا كانت تضع بين أسنانها ومع ذلك كان لعابنا يسيل بغزارة. تأخذني مخيلتي مع أصواتها إلى أكلات المطاعم الباريسية والإيطالية. أغمض عيني لأرى أطباقًا راقية وساحرة لا أعرف أسمائها. أعود جائعة من مخيلتي لأجد، على الأغلب، قطعة خبز جافة بين يدي أمي.

تروي لنا حكايات غريبة أعجز غالبًا على تصورها. تقول لنا إن الحلق هو الشيء الأكثر إبهارًا من بين كل تلك الأشياء العجيبة التي صنعها الله. علمتنا أن اللّسان هو صائن صاحبه ومارده. تقول لنا أن نستعمل تلك المكينة العجيبة بكل تأن حتى لا نندم على إهدار الكلمات. "اللسان إذا صنته صانك وإذا هنته هانك" هكذا كانت تحذرنا مما يمكن أن يصدر عن أفواهنا. نغسل أفواهنا العديد من المرات خلال اليوم الواحد، عدا عن المضمضة والاستغفار الذي تجبرنا عليه أمي تحسبًا لأي زلات غير مقصودة. لم تسمح لنا مطلقًا بالتدخل في "حديث الكبار" بتعلة أن أوان شم روائح الكلمات لم يحن بعد. حدثتنا كثيرًا عن روائح معطرة للكلمات، عن رائحة الحب والتضحية والمسامحة، تختصر كل روائح الورود فيما يجمع عائلتنا ذات التسعة أشخاص. لا تلبث في كل مرة أن تنبهنا من أفواه بقية العالم التي يمكن أن تكون ملغومة ومسمومة. تفوح رائحة غريبة من حديث خالتي "م" كلما كنا نجتمع في بيت جدي. كنا نستغرب من كمية الأحاديث التي تؤلفها وتغلفها بموهبتها الرهيبة في الإقناع. ورثت ابنتها "ز" تلك الموهبة مع رائحة حادة لحديث الكاذبين. كنا نتخلص من كلماتهما بعد كل لقاء. كان كلامهم مثل الفضلات المتراكمة غير قابلة للرسكلة او المراجعة. أما في المرات القليلة التي وقعت امي فيها في الفخ فقد كان بسبب إدعاء إصابتها بالزكام وعدم قدرتها حينها على تمييز روائح أختها المعتادة.

تقول لنا إن الانحراف بعض الأحيان شر لا بد منه، وأن الله يبعث فينا علة الخطأ حتى يمن علينا بالمغفرة الربانية. تقول إن "الله غفور رحيم". تستحضر لنا أمثلة عديدة لتعلمنا أشياء عن إنسانيتنا. تشير إلى تلفازنا بالصندوق المصدر للأكاذيب دون استثناءات. تستغرب من رجل ثري يرتدي معطفًا ثمينًا وهو يتحدث عن حقوق فتاة فقيرة توفيت في موجة برد قاسية. في مقابل ذلك تتابع بكل حب المسلسلات التركية التاريخية مكتفية ببعض الكلمات لتبرير شغفها ذلك "مسلسل ما فيه شي خايب، يحكي على الحريم والحرب، يهبل". الأكيد أنها على حق فالأحداث التاريخية صادقة بالرغم من التحريف الذي تمارسه ايدي المحترفين وأفواههم. مع الوقت عرفت جيدًا أن للفم روائح عديدة تشبه أرواح أصحابها. تعلمت أن أميّز بين رائحة الخبث والغدر ورغم ذلك كنت فريسة سهلة لأفواه عديدة، أسوءها للفيروس "س" وعائلته وأخته.

 

  • فصل من مذكّرات "فيروس س". بدأت كتابتها نهاية 2017.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيار آلان غاس: هل قلتُ لكم؟

تشارلز سيميك: عصافير مهاجرة