14-يونيو-2017

يرتبط رمضان في مصر بطقوس واحتفالات متنوعة (خالد دسوقي/أ.ف.ب)

لكل جماعة بشرية أو شعب من الشعوب عادات مرتبطة بالمناسبات والأعياد. وفي مصر، اعتاد الناس على تحويل كل مناسباتهم إلى طقوس احتفالية، احتفالات للميلاد واحتفالات للزواج واحتفالات للنيل وللزراعة وللحصاد، بل واحتفالات للحزن والموت.

تحتل المناسبات الدينية المرتبة الأولى في الاحتفالات المصرية، وترتبط بكثير منها طقوس خاصة تمتد جذورها في التاريخ البعيد

وكما يشير الباحث التاريخي عماد أبو غازي في دراسة له عن الاحتفالات الرمضانية في مصر، تحتل المناسبات الدينية المرتبة الأولى في الاحتفالات المصرية، وترتبط بكثير منها طقوس خاصة تمتد جذورها في التاريخ البعيد، ولا يشذّ شهر رمضان عن هذه القاعدة المصرية الخالصة.

فرمضان في مصر هو شهر احتفالات بالأساس، تصاحبه قبل مولد هلاله وتستمر حتى نهايته، وتعتبر احتفالات الرؤية من أقدم الاحتفالات التي ترتبط بشهر رمضان. ووفقًا لمصادر تاريخية مختلفة، يؤرَّخ لعصر الدولة الفاطمية البدء في أشكال الاحتفالات التي نعرفها حاليًا في مصر.

اقرأ/ي أيضًا: رمضان المصري.. كيف كان موكب رؤية الهلال عبر العصور؟

والسبب الأرجح وراء ذلك يعود إلى أن الفاطميين بعدما نقلوا عاصمة دولتهم الناشئة من المهدية في تونس إلى القاهرة في مصر، سعوا إلى توطيد مكانتهم لدى الشعب المصري بالتقرب منهم وتحبيبهم في مذهبهم بعدما فطنوا إلى ميل المصريين إلى البهجة والفرح بعد سنوات قاسية تحت حكم الإخشيديين، فدرجوا على إقامة الكثير من الاحتفالات الرسمية ورعاية الاحتفالات الشعبية الموجودة من قبل في المناسبات الدينية. وإجمالًا، يعتبر العصر الفاطمي هو أول عصر لدخول مصر في إطار الحضارة الإسلامية، تصلنا منه صورة متكاملة عن شكل الحياة الاجتماعية وعادات الناس وتقاليدهم.

"وفي رمضان تبدو الشوارع مضاءة وصاخبة ويجتمعون بها في أبهى ملابس العيد، ويأكلون بلذة الحلوى والمآكل المسكرة وينغمسون في كل أنواع التسالي وينتشر حشد من الناس في الشوارع، وينشد رجال بصوت عال ابتهالات دينية تصحبها أصوات ناشزة للطبل والمزمار"، هذا ما كتبه آدم فرانسوا جومار، أحد رجال الحملة الفرنسية في كتاب "وصف مصر"، واصفًا ما استرعى انتباهه في ليالي رمضان القاهرية في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.

وواضح في الوصف رؤية المستعمر الخارجية والتي حجبت عنه العالم الداخلي للاحتفال بليالي رمضان. وفي ثلاثينات القرن التاسع عشر، يكتب إدوارد وليم لين ما استرعى انتباهه، هو الآخر، في ليالي رمضان بالقاهرة: "بعد الإفطار يرتاد البعض، خاصة أبناء الطبقة الدنيا، المقاهي، حيث يعقدون اللقاءات الاجتماعية، أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية، أو عزف المزيكاتية الذين يسلّونهم في المقاهي كل ليلة ويتدفق الناس إلى الشوارع، كما تبقى محلات الشراب والمأكولات مفتوحة. وهكذا ينقلب الليل نهارًا. وإلى جانب هذا يقيم بعض علماء القاهرة حلقات ذكر في منازلهم بأن يدعوا بعض الأشخاص من أصدقائهم حيث يقيمون الذكر أو الخاتمة".

هذا الوصف يضيف بعض التدقيقات والتفصيلات إلى الوصف الأسبق لجومار، فهو هنا مكتوب على يد مستشرق آل على نفسه أن يعايش أبناء المجتمع المحلي ويخالطهم في مسالك حياتهم، إلا أنه يبقى "وصفًا خارجيًا"، يرسّب لدى القارئ الإحساس بغرابة الواقع الموصوف وصخبه وعشوائية أفعاله. ولكن ذلك لا ينفي قيمة الوصفين الوثائقية والتي تكشف عن البعد التاريخي لعدد من العناصر التي لا تزال إلى يومنا هذا تكوِّن مظاهر الاحتفال بليالي رمضان، لا في القاهرة وحدها وإنما في أنحاء البلاد جميعًا من حضر وريف وبادية.

كما أن هذين الوصفين يكشفان لنا مدى التغير الذي لحق بفكرة الاحتفال الرمضاني على طول العهود التي مر بها منذ دخول الإسلام وانتشاره في مصر، فيمكن القول إن القرون الهجرية الأولى لم تشهد من المظاهر الرمضانية إلا ما يتعلق بإحكام أداء الصوم بوصفه فريضة دينية فردية، ومع منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) تبدأ تصلنا إشارات تفيد اهتمامًا من السلطات العليا بالممارسات العامة في الشهر الفضيل، كأن نجد تكليفًا من الوالي للقاضي باستطلاع هلال شهر رمضان وإعلان التثبت من رؤيته، أو ما ورد عن أحمد بن طولون، ولاحقه محمد الإخشيد، من إرسالهما النفقات في أول رمضان لعمارة المساجد وإنارتها.

اقرأ/ي أيضًا: رمضان في مصر.. تضخم وغلاء ومعيشة صعبة

امتداد اجتماعي

الرحالة التركي الشهير أوليا جلبي تطرق لاحتفاء الناس برمضان في مصر عبر تبادل الزيارات والسهر السحور وتجمع الناس في المقاهي

ومنذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) نجد نقلة في الإشارات التاريخية التي تفيد التحول نحو اكتساب الاحتفال برمضان طابعه الشعبي الاجتماعي. ثم نجد أن هذا الطابع الاجتماعي قد اتسع حتى اتخذ مظهر الاحتشاد والتجمع، إما في البيوت والمنتديات أو في المواكب والمسيرات في الشوارع. وتظهر هذه النقلة بوضوح في ما أورده الشهير أوليا جلبي، الرحالة التركي الذي زار مصر في أواخر القرن الـ 19، عن احتفاء الناس برمضان عبر عدد من الطقوس والفعاليات المتنوعة، مثل تبادل الزيارات العائلية والسهر حتى موعد السحور وتجمع الناس في المقاهي وإضاءة الأسواق والشوارع وقراءة القرآن وختمه في المساجد وتلاوة القرآن عن بعض البيوت التي كان يُرتب فيها قارئون لختم القرآن.

هذه النقلة الاجتماعية ساهمت في ظهور مهن مرتبطة بتجهيزات هذا الشهر، مثل الحلوجية والشمّاعين والقنديلجية. فقد كان لصانعي الحلوى سوقهم الذي يسمى "سوق الحلاويين" وقد كانوا يصنعون، بالإضافة إلى القطائف والكنافة وأشباهها، حلوى على هيئة الحيوانات من قطط وسباع وغيرها، وقد عُرفت هذه التماثيل السكرية باسم "العلَّاقات"، لأنها كانت تُعلق بخيوط على أبواب الحوانيت. كما كان للكعك اختصاصيون يقومون بتجهيزه، وخاصة قبيل عيد الفطر (وهي عادة متوارثة إلى الآن في مصر)، وكان كثير من بائعيه من اليهود، وعمومًا كان لصانعي الكعك سوقهم الخاص المسمى "سوق الكحكيين".

وبالمثل كان لصانعي الشموع سوقهم المسمى "سوق الشمّاعين"، وكان يُباع به كميات كبيرة من الشموع يصل وزن بعضها إلى أكثر من قنطار، ومنها ما كان يجرّه الصبيان على عجلات في مواكب صلاة التراويح. وهناك أيضًا طائفة "القنديلجية" التي يعمل أفرادها في تزيين الدكاكين بالفوانيس والقناديل، ويبدو أنهم أسلاف صنّاع فوانيس رمضان المعاصرين، الذين يكافحون حاليًا للحفاظ على مهنتهم بعد غزو الفوانيس الصينية للأسواق.

الوقوف عند الإشارة إلى الحرف السابقة يقدّم أحد الشواهد على اتساع دوائر أثر الطابع الاجتماعي الذي أضفته الثقافة الشعبية على الاحتفاء بشهر رمضان، وتبيان مدى التعقيد والتركيب الذي وصلت إليه الممارسات المتصلة به، وهو الأمر الذي أدى إلى تبلور منظومة من الأعراف والتقاليد والعادات تتكامل معًا لتصنع هذا الاحتفال المتميز بالشهر الكريم طوال لياليه، وولّت ما يمكن أن نسميه "روح رمضان" ومُثُله الجمعية.

وإجمالًا، فإن التقاليد والعادات التي استقر العرف المتواتر على الالتزام بها إحياء لليالي رمضان تدور حول محورين، أحدهما ديني والآخر اجتماعي. وإذا كان المحور الديني في الاحتفال الرمضاني ينصب على أداء الفروض الخمسة وصلاة التراويح والإكثار من قراءة القرآن، فإن المجتمعات المحلية التقليدية في مصر حوّلت جانبًا كبيرًا من أداء هذا الشعائر الفردي إلى أداء جماعي، وضخّمت من إجراءاته حتى صارت مظهرًا احتفاليًا.

تقاليد رمضانية

أما في المحور الاجتماعي، فتساهم كل فئات المجتمع المصري في إحياء ليالي رمضان كل بطريقته، سواء من الأطفال أو من النساء والرجال. من الواجبات الاجتماعية التي يلتزم بها البالغون، وخاصة بين الأهل والأصدقاء والجيران، في ليالي رمضان، تبادل الزيارات والتشارك في تناول الأطعمة وتشاطر الحديث وحضور ألوان الأداء الفني أو الإسهام في أدائها.

وفي المجتمعات التي لم يكن متاحًا لها الوسائط، مثلما كان الحال في الواحات البحرية مثلًا، كانت مجموعة من الأصدقاء تتداول ما يسمى "التعتيم"، حيث يتجمعون في منزل كل واحد منهم بالتبادل كل ليلة للتآنس ومشاطرة الأحاديث وشرب الشاي وتناول المسليات والمقرمشات، وربما اقترب من عادة "التعتيم" هذه العادة الخليجية المتصلة بـ "الفوالة" و"الغبقة" ونحوهما.

للنساء كذلك أنشطتهن المخصوصة في ليالي رمضان التي يقمن فيها بالتوسعة على الأسرة في المأكل والمشرب وفي وجوه التعامل جميعًا. وبعد أن ينتهين من ذلك، يكون لديهن رخصة أو سماح اجتماعي تخفّ فيه قبضة الهيمنة الرجالية، تمكنهن من الحركة المستقلة أو تنظيم ملتقيات دورية بين معارفهن من الأهل والصديقات والجيران. الأمر نفسه يمكن أن نجده في بعض المجتمعات العربية، مثلما هو حادث في سلطنة عمان، حيث تقيم النساء موائد إفطار جماعية لأنفسهن، تشارك فيها كل واحدة منهن حسب إمكانياتها.

كذلك يكون للأطفال حرية نسبية تتيح لهم السهر والحركة المستقلة مع رفاقهم خارج المنزل، ومن هنا وفرة الأنشطة الإبداعية التي يقوم بها الأطفال بأنفسهم ولأنفسهم. فبالإضافة إلى الألعاب ومجالات تنمية القدرات والخبرات المشتركة، سنجد نشاطًا حافلًا يتصل مباشرة برمضان ولياليه يبدأ باستقبال الشهر ويستمر مع لياليه حتى توديعه مع حلول ليلة العيد. ربما كان أبرز هذه الأنشطة تنظيم مسابقات جماعية لكرة القدم أو ما يعرف بـ "الدورات الرمضانية"، وكذلك تنظيم مجموعات الغناء التي تجول في الشوارع لتنشد في مناسبات الشهر المتنوعة، فيغنون له وكأنه شخص يتقبل تكريمهم ويرجونه تنفيذ رغباتهم.

ولا يبعد عن هذا ما يقومون به في جولاتهم المنظمة للمرور على البيوت والحوانيت وهم يحملون أكياسًا يتلقون فيها حلوى أصحابها، وقد يتلقون نقودًا بدلًا من الحلوى العينية. وعادة ما يتم هذا وهم يؤرجحون فوانيسهم ويغنون الأغنية المتواترة التي تعود أصولها إلى المصريين القدماء، لأنها تتضمن دعاء سحريًا لحفظ الشهر وإحاطته بالحماية: "وحوي يا وحوي.. إياحا/ رحت يا شعبان.. جيت يا رمضان"، ومن ثم يصبح من حقهم المطالبة الصريحة: "إدّونا العادة/ يا ميش وحلاوة/فستق وبقلاوة/ربي يخليكم".

ويبدو أن المجتمعات الخليجية زحزحت عادة تجوال الأطفال وغنائهم وسؤالهم للحلوى في رمضان لتكثفها في ليلة النصف من رمضان تحت اسم القرقيعان أو القرنقشوه، وهي عادات شعبية رمضانية منتشرة في كل من عمان وقطر والكويت والسعودية والإمارات وبعض المدن الإيرانية والعراقية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

دراما رمضان المصرية.. فضائح الأسبوع الأول

4 إعلانات مصرية أثارت السخرية في رمضان