10-يونيو-2017

تعطي أحاديث القطار فكرةً قريبة من الواقع (فاروق باتيش/ أ.ف.ب)

لا تزعجني الأحاديث السّائدة في القطار، حتى وإن كنت مرهقًا أو كان مزاجي راكدًا، لأنّها تعطيني فكرة قريبة من الواقع عن هذا الواقع، الذي كثيرًا ما نحكم عليه من غير أن نعرفه فعلًا. وتصبح رغبتي في التقاط هذه الأحاديث أكبرَ، خلال شهر رمضان، لأنّها تكون أصدقَ في التعبير عمّا يشغل الإنسان البسيط. ذلك أنّ جرعة رفضه لواقعه المرير، تزيد في هذا الشهر بالذّات، بالنظر إلى خصوصيته لدى الجزائريين، من الناحية المالية، فهم يصرفون فيه من المال ما لا يصرفونه في غيره. ومنه يصبح التفاتهم إلى واقعهم فيه أكبرَ منه في باقي الشّهور.

يصرف الجزائريون المال في شهر رمضان أكثر من غيره، لذا فإن ارتباطهم بواقعهم يكون في هذا الشهر أكبر من غيره

كان القطار يقضم سكّتَه، في بطء أنثى ثعبانٍ يعرقلها بطنها المملوء بالبيض. وكان النّاس يمسكون بقضبان الحديد داخله، بين صحوٍ ونعاس، فلا تدري هل أنت في منامٍ أو في واقع حي. إلا إذا كبح السّائق فجأةً، إذ يتداخل الركّاب فيما بينهم، فتتداخل أحاديثهم عن أوضاعهم، ثمّ تأخذ في الخفوت، إلى أن تحدث كبحة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: أوّل رمضان في زمن التقشف الجزائري

قال أحدهم لأحدهم: "أؤمن بقدسية رمضان، لكنني بتّ أشكّ في أنه بقي شهرًا للبركة. ألم ترَ أن أكياس القمامة أكثر من أكياس التبضّع؟ ثمّ إنّني أشتري كيس الدقيق وعلبة الزيت، فلا تلبثان أن تنفدا، قبل زوال أثرهما على كتفي". فقال محدّثه: "لأننا لم ننتبه، بعد ستين عامًا من الاستقلال، إلى أننا لم نكتسب ثقافة التوفير والاحتياط، شعبًا وحكومةً. فنحن نعيش إمّا في تبذير عند توفّر المال وإمّا في تقشف قاسٍ عند الأزمات المالية. هل يعقل أن تدعو الحكومة إلى شدّ الحزام مباشرة بعد هبوط أسعار البترول؟ هل كنا سنصل إلى ما نحن عليه من خواء الجيوب والصناديق، إلى درجة إلغاء المشاريع التي لم تنطلق بعد، لو رشّدنا نفقاتنا في زمن البحبوحة؟".

تدخل ثالث كان يدسّ رأسه في جريدة: "إنّ الجزائري يعبث في راتبه، بعيدًا عن أيّ تخطيط وفق الأولويات في الإنفاق، ثمّ يمارس شهوة سبّ الحكومة ورواتبها المعتمدة. فهو يعيش الأيام العشرة الأولى باللحم، ثمّ يكمل بقية أيام الشهر بالعجائن". يسأل: "هل يمكننا أن نجد هذه العقلية عند الفرنسيين مثلًا؟ إنهم يربّون أولادهم على ثقافة التخطيط منذ بداية تعاملهم مع النقود. وعلينا أن نقارن بين علاقة الطفل الجزائري بالحصّالة، وعلاقة الطفل الفرنسي بها، لنعرف الإجابة على هذا السّؤال".

كان الركّاب يستمعون إلى حديث الثلاثة، فبعث فيهم الرّغبة في أن يباشروا أحاديث بينهم. وهو ما جعلني أتعمّد تغيير مكاني أو جهة أذني، لأتمكّن من لملمة الخطوط. كتابة الرّواية والقصّة القصيرة علّمتني ذلك. قالت عجوز يبدو أنّها لم تشبع نومًا: "على الرّجل الجزائري أن يتحمّل نتيجة استبعاده للمرأة في تسيير شؤون البيت، فهو يخفي عنها راتبه، ولا يُشركها في التخطيط لإنفاقه. يا أولادي، متى تعترفون أن المرأة العاملة تحسن تسيير وقتها ومالها أكثر من إحسان الرّجل لذلك؟ وبأنّها تفرّق أكثر منه بين الكماليات والضّرورات؟".

لم ينتبه الرجل الجزائري، على مدار ستة عقود منذ الاستقلال، إلى أنه فشل في تسيير الشأن العام، ولعل الدليل هو واقع اليوم

كأنّ العجوز أطلقت ثعبانًا بين الركّاب بسؤالها ذاك، فراحوا يتحدّثون دفعة واحدة. لماذا تثير الأحاديث المتوجهة إلى تثمين مواهب المرأة الحساسيةَ في الفضاء الجزائري؟ لماذا لم ينتبه الرّجل الجزائري إلى أنه فشل في تسيير الشأن العام، على مدار ستة عقود من الاستقلال الوطني، والدليل هو هذا الواقع الذي يشكو منه هو نفسه؟

اقرأ/ي أيضًا: المطلقات في الجزائر.. حقوق مهدورة وتحرش جنسي

كان الركّاب يتبادلون النزول والرّكوب، من محطّةٍ إلى أخرى، وكنت "الثابت والمتحوّل" في القطار، علّني أقبض على إجابات مقنعة على جملة من الأسئلة والهواجس، منها: لماذا يغرق الجزائريون في هذا الكمّ المرعب من الحرمان بكلّ تجلّياته، بالموازاة مع كلّ الطاقات والخيرات والإمكانيات التي يملكونها ويملكها مكانهم؟ هل العيب في الحاكم أم في المواطن أم في كليهما؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

احتجاجات في الجزائر.. غليان المواطن وخطر الفوضى

الجمهورية الجزائرية المتناقضة