27-أكتوبر-2020

من فيلم لالا لاند (IMDB)

بعد التعمق في السينما وفي النقد السينمائي، وبعد مشاهدة مئات الأفلام والتعرف إلى عشرات المخرجين، يصبح من السهولة التكهن باسم المخرج الذي وضع لمساته على الفيلم دون الاضطرار إلى قراءة اسمه مع الأسماء في الشارة، فالمخرج يترك بصماته المتعددة عبر عدة تفاصيل ومن هذه التفاصيل المهمة هي الألوان.

تسم الألوان الفيلم بسمات محددة وتشير إلى التصورات التي يحملها المخرج أو ينوي عرضها على المشاهدين للتأثير عليهم

تسم الألوان الفيلم بسمات محددة وتشير إلى التصورات التي يحملها المخرج أو ينوي عرضها على المشاهدين للتأثير عليهم، وتشكل الألوان عنصرًا جوهريًا من العناصر التي يُسخّرها المخرجون للتعبير عن أفكارهم وعن أجواء الفيلم وما يريدون الإيحاء به للمشاهدين. كل فيلم له طريقته الخاصة في سرد ​​قصته، ويمكن القول إن اللون يصبح عنصرًا في تشكيل القصة مثله مثل المونتاج أو الموسيقى التصويرية وغيرها من العناصر الأساسية في العملية الإخراجية السينمائية.

اقرأ/ي أيضًا: تعرف إلى أهمية دور المونتاج في الفيلم السينمائي

تفيد الأبحاث إلى أن ما يصدر من انطباعات جراء الألوان وامتزاجها سويًا وتشكلاتها المختلفة وما تتركه من ذاكرة لونية، يُعتبر بمثابة لغة لكنها ليست عالمية بل لغة تؤثر في البشر بحسب انتماءاتهم في البيئة والمحيط والثقافة واللغة المحكية، وكذلك تختلف باختلاف النوع الجندري بين الرجال والنساء. فيما تشير نظرية أخرى إلى أن البشر يتلقون الألوان بطريقة متجانسة وسبّب ذلك يعود إلى البيولوجيا الجسمية للبشر. كذلك تشير الدراسات عن وجود علاقة بين الصوت واللون وما تتركه الألوان من تأثيرات مختلفة تبعًا للأصوات المصاحبة لها.

ومن الواجب التفريق بين الضوء وبين الألوان على اعتبار أن الضوء هو أشعة إلكترومغناطيسية فيما اللون هو خبرة انطباعية تتشكل في الدماغ. وهذه الخبرات التي يتعرّض لها الجمهور أثناء مشاهدة الفيلم هي اللون والحركة والشكل وتشير الأبحاث إلى أن الدماغ يتلقى اللون والشكل أسرع مما يتلقى الحركة. وهكذا تتبين المسألة حول كيفية إندماج العلم مع الفن السينمائي من أجل فهم أكثر لطبيعة اللون وخصائصه وتأثيراته.

فالألوان تؤثر مباشرة على المزاج العاطفي والسلوك وعادات النوم والعدوانية والطاقة المخزنة عند الإنسان. وللألوان قدرة على التأثير سواء بشكل واعي أو لاواعي، وما علينا سوى مراقبة الحملات الدعائية ومدى استفادة علم التسويق من الألوان للتأثير في سلوكيات المستهلكين ورفع نسب المبيعات.

وتلعب اختيارات الألوان في السينما دورًا في عملية التسويق للفيلم أو لشخصيات محددة حيث تتميز هذه الشخصيات من خلال تفردها بلون محدد، أو طغيان حالة خاصة من الألوان عليها كملابسها ومكان سكنها وغرفتها وسيارتها وإكسسواراتها إلى ما هنالك. كذلك ترتبط الألوان بطبيعة المشاعر التي تشعر بها الشخصية وبطبيعة الأفكار التي تفكر فيها الشخصية، وينتج عن المشاعر والأفكار الجو العام النفسي للمشهد.

تساعد الألوان المخرج على تحسين الجانب العاطفي للفيلم وتساعد المشاهدين على الاستجابة له

كما تساعد الألوان المخرج على تحسين الجانب العاطفي للفيلم وتساعد المشاهدين على الاستجابة له. ويبدأ دور الألوان من التفسير المرئي للسيناريو الذي يجعل الفيلم يبدو حقيقيًا، ويضفي على كل مشهد في الفيلم صبغة دقيقة خاصة به. فالمزاج أو الشعور الناتج عن الألوان تؤثر في الجمهور حتى بعد انتهاء الفيلم.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "I’m Thinking of Ending Things".. حكاية سجينٍ في خياله

يبدأ اختيار الألوان للفيلم من مرحلة ما قبل الإنتاج مع مصمم الإنتاج والمخرج ومسؤولي القسم الفني والمصور السينمائي والغرافيك ديزاينر. هؤلاء يقترحون كيف ستكون المجموعة اللونية المناسبة للفيلم، وكذلك ألوان الأزياء، والإضاءة، ويحددون كيف يمكن أن تتم قراءة ألوان الفيلم، وتأثيراتها على الشعور العام عند المتلقي، وكل ذلك يساهم في خلق الجو العام للفيلم.

يمكن الإشارة هنا إلى فيلم Her بطولة خواكين فينيكس ومن كتابة وإخراج سبايك جونز. يعرض الفيلم قصة حب ما بين رجل وحيد ونظام تشغيل إلكتروني، ويمكن القول إن القصة تدور حول الحب والوحدة والعزلة والذكريات والفراق. وقد عمل كل من مصمم الأزياء كاسي ستورم مع مدير التصوير جيوف مكفريدج ومصمم الإنتاج كايث باريت.. على كيفية إبراز هذه الثيمات من خلال الألوان فكانت النتيجة كما هو مبين في الصورة حيث نلاحظ تناسق الألوان، وتحديدًا اللون الأحمر وما يشتق منه من ألوان تزيد أو تنقص في درجة الحدة. ويمكن بقليل من التدقيق التنبه إلى أن ألوان المغلفات والطاولة والجدار والنوافذ متناسقة في ألوانها مع بعضها البعض ومع ابتسامة البطل ثيودور توامبلي.

وإذا ما وضعنا في ذهننا أن "لا شيء في الفيلم يمر صدفة" وبأن السينما فن الصورة، يصبح حينها على كل عنصر أن يخدم الفيلم، ويصبح المخرج المبدع من يهتم بالتفاصيل لأن "تفاصيل صغيرة تؤدي إلى أمور كبيرة"، ويصبح حينها من الموجب أن يكتب عن عنصر الألوان في كل مشهد مثلما يكتب عن باقي الشخصيات في الفيلم.

يشرح فيكتوريو ستورارو، الحائز على ثلاث جوائز أوسكار، واحد أهم السينماتوغرافيين، في كتابه "الكتابة بالضوء" أهمية الألوان وما يوحيه كل لون. يقول ستورارو عن أهمية الألوان وعن عالم "والت ديزني" الذي استخدم الألوان أبرع إستخدام لمخاطبة عقول الأطفال من خلال الألوان: "لماذا تكون التفاحة في قصة بياض الثلج لونها أحمر؟ كان يمكن أن تكون تفاحة خضراء أو صفراء!".

إذا ما وضعنا في ذهننا أن "لا شيء في الفيلم يمر صدفة" وبأن السينما فن الصورة، يصبح حينها على كل عنصر أن يخدم الفيلم

ويضيف ستورارو إلى أنه يحدد اللوحة اللونية في الفيلم بعد قراءة النص والمناقشة مع المخرج حول الأهداف والرسائل المبتغاة من الفيلم. فالإسقاط الذي يتم على اللون يتحدد أيضًا بحسب سياق القصة ككل فاللون ذاته يمكن أن يعني فكرتين متعارضتين إذا وضع في سياق مختلف. يقول ستورارو بهذا الصدد: "معرفة الفكرة الرئيسية في الفيلم وكيف يمكن الإيحاء والترميز بذلك عبر الألوان وخلق الجو العاطفي والنفسي والواقعي والتعبيري في الفيلم".

اقرأ/ي أيضًا: The Three Identical Strangers.. حكاية التوائم الأشهر في أمريكا

على سبيل المثال لا الحصر، فاللون الأبيض يرمز إلى الجسد والنقاء والطهارة والزواج، واللون الأحمر إلى طاقة الحياة والإغواء والشهوة والجريمة والغضب والعلاقات الحميمية، والأزرق رمز للجمال والهدوء، والبرتقالي للولادة والعائلة ومناظر الحرب، والأخضر للطبيعة الحية والإيجابية وعدم الاستقرار والخلل النفسي والشر، والزهري للأنثوي والنعومة والبراءة واللطف واللعب والعطف، والأرجواني للموت والغموض، والأصفر للقلق والثروة والسعادة والحكمة والتاريخ.

دون أن ننسى تفاعلات الألوان مع بعضها البعض، وما توحيه حين يتم وضعها بطريقة متعارضة في مواجهة بعضها البعض أو بطريقة ذوبانية. ومما يجب ذكره أن كل لون أساسي له عدة مندرجات متسلسلة من الحاد/الشديد إلى الخفيف/الرقيق مثل اللون الأحمر الذي يندرج منه لوحة متسلسلة متعددة من ذات العائلة اللونية، ومعرفة كل ذلك يساهم في خلق التوازن والتناغم البصري في الفيلم.

ولا بد من الإشارة إلى أن الجمهور يدرك سريعًا ما إذا كان هناك تناسق لوني في الصورة حتى وإن كان هذا الإدراك واعيًا أم غير واعي.  ومثال على ذلك: "زوجان، الرجل يرتدي لباسًا أصفر فيما ترتدي زوجته فستانًا أحمر وابنهما يرتدي لونًا من مندرجات اللون الأحمر وهو لون قريب من ما ترتديه والدته".

ويمكن استخدام الألوان كذلك لإرشاد الجمهور لفكرة محددة أو لمعرفة ما هو مهم. فمن إحدى مزايا استخدام الألوان في السينما هي عملية "الانتقال" من حالة إلى حالة قد تكون مكانية أو زمانية أو عاطفة أو فكرية، كالانتقال من الماضي إلى المستقبل، أو من بلد إلى بلد، أو من الحب والشراكة إلى الوحدة، أو من الشعور بالمظلومية إلى ممارسة الظلم والشر.

عندما يصبح اللون هو الوسيلة لتحقيق الغاية في الفيلم نكون أمام عمل سينمائي مكتمل ومحبوك

وهنا يكمن الإخراج الناجح في جعل اللون الجميل يخدم القصة وليس فقط أن يكون دوره دورًا تزينيًا. فالجمالية تختبئ خلف الشكل والمضمون المراد بعثه في ذهن الجمهور. وعندما يصبح اللون هو الوسيلة لتحقيق الغاية في الفيلم نكون أمام عمل سينمائي مكتمل العناصر محبوك بدقة. فهناك ألوان تضخم الأشياء أو تجعلها نافرة أو مليئة بالدفء أو مزعجة أو فوضوية أو باردة، وتضفي على الشخصيات سمات نفسية (عاطفية وذهنية) وسلوكية محددة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Her".. هل يمكن أن تنشأ علاقة عاطفية بين الإنسان والآلة؟

لنأخذ مثال أحد مشاهد البطل "والتر وايت" في مسلسل Breaking Bad حيث يقوم البطل بخلع قميصه الأحمر وهو في حالة عصبية ووسط شجار مع زوجته، ويتكشف لنا أن ثيابه الداخلية أي قميصه الداخلي أيضًا أحمر ولكن بدرجة فاقعة أكثر! فما الغاية من إظهار البطل يرتدي ثياب داخلية حمراء وثياب خارجية حمراء في ذات الوقت وبدرجات مختلفة؟ إنها دلالة على حالة الانغماس في الجريمة، ودلالة على أن هناك شخصية تخفي شخصية أخرى عند البطل والتر وايت وهي ازدواجية في شخصيته سادت طوال المسلسل.

في فيلم ستيفن سبيلبرغ "قائمة شندلر"، تم تصوير الفيلم بأكمله بدرجات من ألوان الأبيض والأسود. واحدة من أربع صور ملونة في الفيلم بأكمله هي صورة الفتاة الصغيرة المفقودة ذات المعطف الأحمر. صورة كهذه لا يمكن للجمهور إلا أن يلاحظها وسط بحر من الدمار والتشويه والقتل الجماعي.

في الحرب العالمية غابت عن أذهاننا أهمية الحياة الإنسانية، لكن صورة الفتاة الصغيرة في المعطف الأحمر أعادت إلى الذهن أهمية القيمة الفردية لكل إنسان. اللقطة بارزة، وواضح أنها تعود لطفلة وليست مجرد رقم/ضحية أخرى مجهولة الهوية. اللقطة بمثابة ومضة حمراء صغيرة تمثل أهمية وفردية كل من ملايين الأرواح التي فقدت خلال الحرب. إنها صورة/لوحة تحمل فلسفة وحكمة يراد ايصالهما.

وفي فيلمه "ميونيخ"، أعطى سبيلبيرغ لكل مدينة لوحة لونية مختلفة، فالأحداث التي دارت في بيروت وروما وباريس ونيويورك كان لكل منها جو خاص، أضفى عليه اللون ثيمات محددة أرادها سبيلبيرغ للتأثير في الجمهور وإيصال رسائل معينة.

وكذلك نجد في الفيلم الرومانسي Blue is the Warmest Color من إخراج عبد اللطيف كشيش كيف تم إستخدام اللون الأزرق للإضاءة على الحالة النفسية لبطلة الفيلم التي تقع في حب امرأة أخرى، ولتبيان مراحل تطور العلاقة العاطفية بين الإمرأتين عبر استخدام متنوع للون الأزرق.

في "ميونيخ"، أعطى سبيلبيرغ لكل مدينة لوحة لونية مختلفة، فالأحداث التي دارت في بيروت وروما وباريس ونيويورك كان لكل منها جو خاص

ليس أشد دلالة على تأثير الألوان في السينما من أفلام المخرج الأمريكي ويس أندرسون الحافلة بالتناقض والمفارقات، حيث يعرض المخرج ألوان فاتحة فرحة فيما شخصياته تعاني من الداخل. وعبر أسلوبه هذا يعبر المخرج عن حالة عالم مضطرب يشبه اضطراب ثنائي القطب بكل ما يتضمنه من تقلبات مزاجية وعاطفية حادة.

اقرأ/ي أيضًا: أفلام غاسبار نوي.. التحرر المطلق من كل مألوف

أين يمكن أن نجد الألوان في السينما؟ في الثياب، الشعر، الماكياج، لون العين، الديكور، الإضاءة، الأدوات، وأماكن التصوير. ويعتبر المخرج ستانلي كوبريك أن "اللون هو الملك" في السينما لذا نجد الألوان في كافة تفاصيل أفلامه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يمكن مقارنة الرواية مع الفيلم المقتبس عنها؟

فيلم "Persona" لإنغمار برغمان.. ثنائية الوجه الحقيقي والقناع