26-أبريل-2018

تصميم بنان شكارنة

في "غوطة دمشق" للعلّامة محمد كرد علي، الذي يعود صدوره إلى 1949 عن "مطبوعات المجْمَع العلمي العربي بدمشق"، استعراض بانورامي أدبي وتاريخي وجغرافي واجتماعي، يقدّم صورة نادرة للغوطة التي باتت اليوم ساحة حرب، ولهذا فإنّ استعادة هذا الكتاب هي في وجه من وجوهها استعادة لصورة المكان في أبهى صوره، على الرغم من أن الماضي لم يكن أكثر رحمة من الحاضر، حيث شهد تلك القطعة الجغرافية خرابًا وأوبئة وإهمالًا.

في الصفحات الأولى، يوضّح الكاتب أن اسم الغوطة مشتق من "الغائط"، وهو المطمئن من الأرض، وجمعه غيطان وأغواط، وقد ورد الاسم في الشعر العربي، قديمه وحديثه، في صيغة المثنى "الغوطتين"، كقول أبي نواس:

ولاحت قرى الغوطتين كأنما    لها عند أهل الغوطتين نذورُ

والغوطتان بالطبع هما ما نعرفه اليوم باسم الغوطة الغربية والغوطة الشرقية.

يقول كرد علي: "أجمع من وصفوا الغوطة على الأيام أنها قرى شجراء، وأنّ فيها قرى كالمدن، وأنّ أهلها كأهل الحاضرة بعاداتهم وأزيائهم، وأن في أكثر قراها الحمّامات والجوامع".

ويشير أنه لولا الأمويون لما حازت هذه الشهرة، فحين جعلوا دمشق عاصمة ملكهم كان للغوطة حظ عظيم من عنايتهم، فبنوا فيها القصور، وأنشأوا المزارع وشقوا الجداول، وعنوا باستثمارها واستنباتها.

ويتناول المؤلف أنساب أهل الغوطة وأديانهم ومذاهبهم، ويتوقّف عند اللغة العربية وتاريخ دخولها إلى هذه الكورة، ثم يقف عند نماذج من العربية الفصيحة التي لقيت مستعملة في الحياة اليومية. بعد ذلك يتطرّق إلى الطرائق الزراعية فيها، ومنتجاتهم من الأرض والحيوان، ومعرفة سكانها بتأثيرات المناخ على الحياة.

يقول صاحب "خطط الشام": "يتألف من مجموع ما ورد على ألسن الشعراء في وصف الغوطة ديوان لطيف، ومنه ما كان من الشعر الجيد لأنه صدر عن شعراء مشهورين، وأدب الغوطة يجمع بين خصائص كثيرة منها الوصف والعاطفة والتاريخ. وأرضٌ كلها شعر لا يستغرب فيها أن توحي الشعرَ للشعراء، ويتغنوا بما خصها به الفاطر من البدائع".

ومن ذلك الشعر قصيدة البحتري التي مدح فيها المتوكل العباسي لما نقل دواوين الملك إلى عاصمة الشام، التي يقول فيها:

العيش في ليل داريا إذا بردا        والراح نمزجها بالماء من بردى      

أما دمشق فقد أبدتْ محاسنها        وقد وفى لك مطريها بما وعدا        

إذا أردت ملأت العين من بلدٍ       مستحسن وزمان يشبه البلدا

يمسي السحاب على أجبالها فرقًا   ويصبح النبت في صحرائها بددا

فلست تبصر إلا واكفًا خضلًا      أو يانعًا خضرًا أو طائرًا غردا

كأنما القيظ ولّــى بعد جيئته        أو الربيع دنا من بعد ما بعدا

في فصل عنوانه "عوامل الخراب"، يتحدّث كرد علي عن سنة حرب قبلية بين القيسية واليمانية، بعد ذلك جاء ظلم المماليك ثم العثمانيين، وكذلك غزوات البدو للقرى المستمرة، وتعدي الحامية والدرك في العهد العثماني على الأرواح والأموال والأعراض. ويختتم هذا الفصل بقوله: "وبعد فقد علمنا من مجموع الكوائن التي وقعت في العهد الإسلامي في الغوطة، أنه ما خلا عقدان أو ثلاثة عقود من السنين من مظالم أضيفت إلى مصائبها السماوية، وكان القضاء على بيوت برمتها بالزلازل والأوبئة والقحط من الأمور التي لا يستغرب وقوعها. ولم يكن في تلك الأيام إحصاء يُركن إليه، فكانوا يقدّرون أبدًا عدد الهالكين بالتخمين، وإذا ضبط ذلك في العاصمة فمن الصعب ضبطه في القرى".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين: بغداد.. تاريخ مدينة السلام‎

ركن الورّاقين (9): مدونة القدس