07-ديسمبر-2016

مقطع من لوحة لـ حاتم المكي/ تونس

حينما نتجوّل في معرض للكتاب ونجد كتابًا بعنوان "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان"، فقد نهرول لتصفّح ورقاته الأولى بهلع قبل دفع ثمنه للبائع بسرعة خشية عدم الظّفر به مرّة أخرى، فالكتاب قد يبين لك لوهلة أولى كجزء ثان لرسائل كنفاني الشهيرة، فإن اختلف الحبيب فالمحبوبة واحدة. فبتجاوز البحث عن قطعة أدبية منمّقة، يوجد دافع كبير لك هو استكشاف رسالة من شاعر عشريني عاشق لفتاة دمشقية لم تكمل العشرين بعد، وذلك بغض النظر إن كان هذا المكتوب سريًّا أو معلقًا على أبواب المدينة.

الكتابة في السرّ هي أعمق ما قد يقوم به الإنسان على الإطلاق

بيد أنّ مطبات نفسية كبيرة قد تعترضك وأنت تتصفح الأوراق وتقلّب بين رسالة وأخرى، وهي مطبّات قد تفسد متعة القراءة، أو سلاستها على الأقل. وعنوان هذه المطبّات هو الرفض المبدئي لنشر هذه الرسائل من أصله، وذلك بخلاف ما ذهب إليه رئيس التحرير عبّاد يحيى في مقاله "دفاعًا عن غادة السمان". لماذا هذا الرفض؟

اقرأ/ي أيضًا: 20 رسالة حب إلكترونية

أن تقرأ رسالة عشق سرية، سواء كان المُرسل هو رجل أو امرأة، قد لا تشعر بأنك مجرّد قارئ، ربما قد تتحسّس في نفسك صفة المتكشّف أو المتلصّص بغير إذن بما أن المكتوب نُشر بموافقة المُرسل إليها فقط. هذا مطبّ نفساني، قد تتجاوزه دون اكتراث وقد تتجاوزه بصعوبة، ولكن بالنهاية هو مطبّ، فأنت تقرأ بالنهاية شيئًا حميميًا لم يقم صاحبه بنشره للعموم. ويصعب عليك أن تنسى ذلك طيلة فترة القراءة.

قد يكون السّؤال، هل يهمّك حقًا كقارئ أي كمستهلك أن يكون موضوع الاستهلاك أي ما تقرأه قد صدر عن صاحبه أم لا؟ لا يمكن قصر الإجابة على النفي أو الإيجاب، فهي تستلزم الحسم في مسألة أوليّة بالنسبة لك وهي طبيعة العلاقة التي تحددها بينك وبين المقروء وصاحبه. 

يمكن أن تكون علاقة جافّة كتلميذ يقرأ نصًّا عرضه المعلّم، فالنّص موجود في البرنامج المدرسي والتلميذ مُلزم بقراءته، فهو لم يختر النصّ ولم يختر صاحبه. حينما تتعامل مع أي نصّ يعترضك بهذه الطريقة أي كمجرّد مستهلك، لن يُضيرك إن وقع نشر الرسائل دون إذن صاحبها، أو وقع سرقتها من بيت غادة خفية. أنت، من زاوية مصلحية بحتة، يهمّك أن تشبع نهمك بقراءة نصّ أدبي منمّق كقطعة عضوية منفصلة عن بقية عناصره بما في ذلك صاحبه.

أمّا إن كنت تعتبر أن المكتوب هو مادّي بمنبع وجداني شخصي بالضّرورة، وأن تقبّله نفسانيًا يختلف إذا ما كان سريًّا أو علنيًا منذ البداية في عدم فصل بين المكتوب وصاحبه وإطاره، فالتردّد قد يلتبسك باسم النزاهة. نعم. فالكتابة في السرّ هي أعمق ما قد يقوم به الإنسان، وقد يكون المخفيّ هو عصارة لعصف عاطفيّ مكنون في الداخل خيّر صاحبه أن يقبره دون أن يراه الآخرون، وهو مساحة بين النفس وذاتها وما الحبيب المُرسل إليه إلا بموضع الذات هنا. أن تقرأ مكتوبًا سريًا دون إذن صاحبه فهو بموضع الانتهاك لما هو حميميّ. بأي حقّ يقع هذا الانتهاك؟

تملك غادة السمان ورق الرسالة ولكنها لا تملك كلماتها وحروفها

كما لا يمكن تجاوز مضمون المكتوب في التقدير بالنهاية. أن تكون رسائل حبّ سريّة من عاشق لم يعلن حبّه أبدا طيلة حياته وإلى مماته، فالمسألة يجب الوقوف عليها مليًّا. لم يشأ أنسي الحاج الذي كتب رسائله التّسع في شتاء 1963 والذي توفي قبل سنتين فقط، سنة 2014، أن يعلن حبّه، أو أن يشير إليها ولو همسًا طيلة حياته، فيما قد كان يمكن تكييفه عن رغبة ولو ضمنية على الأقل في الكشف عن قصة حبه، لتقوم غادة لاحقًا بنشرها. لماذا استنكفت غادة عن نشر الرسائل طيلة نصف قرن والمُرسل على قيد الحياة، لتنشرها لاحقًا بعد سنتين من وفاته، إن لم تكن تعلم أن المُرسل العاشق يرفض نشرها؟ 

اقرأ/ي أيضًا: غسان كنفاني.. الإقامة في زمن الاشتباك

بالنهاية هل هي الأخلاق؟ نعم لا يجب القفز على الجانب الأخلاقي. يفترض احترام مبدأ الخصوصية للفرد بالضرورة الالتزام بحقّ الفرد في نشر ما يكتبه للعموم من عدمه. فإرسال رسالة بصفة سرية تفترض تعاقدًا ضمنيًا على إبقاء الصبغة السرية للمكتوب بين أطرافها. 

الحديث عن المسألة من الزاوية القانونية مغرٍ جدًّا. هل يملك المُرسل إليه الرسالة؟ وفق قانون تنظيم حق الملكية، فحيازة المنقول، والرسالة هي منقول، هو سند للملكية. جميل. ليكون السؤال بالتتابع، هل يحق للمالك التصرّف المطلق في الرسالة من الناحية المادية؟ مبدئيًا نعم، يمكن للمُرسل إليه أن يحرق الرسالة أو أن يعطيها للآخر. ولكن ماذا عن التصرّف القانوني كبيع الرسالة مثلًا أو استغلالها استغلالًا تجاريا؟ مبحث الملكية الفكرية هو الذي يطفو على السّطح في هذا الجانب.

تملك غادة السمان ورق الرسالة ولكنها لا تملك كلماتها وحروفها، وهي أصلًا لم يتملّكها شعور صاحبها حتى إنها لم تبادره حبّه وتردّ على رسائله. قد يُقال ردًّا بأن الورثة بإمكانهم التربّح من المنتوجات الأدبية ولو دون موافقة صاحبها قبل وفاته، الإجابة بأن صفتهم كورثة تجعلهم أصحاب حق بالتتابع بعد الوفاة، ولذلك مثلًا من يريد اليوم استغلال منتوج فنّي لمتوفى عليه الحصول على موافقة ورثته قبل كل شيء.

يصرّ بعض القرّاء على التعسّف بالقول بأنه ما دام قد خرج النص من تحت يد صاحبه فهو بات متاحًا أمام الآخر. وهذا التعسّف تأسيسه أنانية القارئ في ممارسة فعل القراءة. فأي مكتوب في أصله هو سرّي بالطبيعة، ما يُكتب في الكنش الشخصي أو في ورقة بيضاء اعترضتنا في المكتبة وغيره، هو سرّي بالنسبة لكاتبه فإن شاء لاحقًا أن يطلع الآخر عليه، وقد يكون اطلاعًا عامًا دون تحديد كنشر كتاب، أو اطلاعًا محدودًا كأن ترسل رسالة للحبيب دون غيره. لماذا يصرّ البعض على مصادرة حقّ الشخص في أن يجعل ما كتبه سريًّا بينه وبين نفسه أو بينه وبين شخص آخر؟ فليس كل مكتوب هو بالضرورة موضوع قراءة.

اقرأ/ي أيضًا:

أنسي الحاج.. نصوص غير منشورة

صادق جلال العظم.. تفكيك الحب