18-نوفمبر-2016

تركيب لـ إيمان عيسى/ مصر

أن تقرأ وتكتب، أن تستمتع بقصيدة تعرفها تمام المعرفة وتقرّر أن تُعيد قراءتها في فضاء مغاير فتتغيّر رؤيتك للعالم، أو ببساطة لنفسك في تلك اللحظة، أن تلتقط رواية ألبير كامو "الغريب" لتعيد قراءتها لأنك تريد أن تتذكّر جملة واحدة، ثم تحصل على الفيلم وتقارن بين المرئي والمقروء، أن تسمح لكلّ الأفكار التي تهاجم رأسك أن تتحوَّل إلى كلماتٍ، ثم جمل، ثم فقرات على شاشة كمبيوتر خلفيتها زرقاء، أن تتوجّه إلى أقرب مكتبة (حقيقية) لتلتقط كتابًا من الرفّ، فلا يعجبك، فتلتقط آخر فتشعر بالغيظ، حتى تجد ضالتك في الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وملك حفني ناصف منذ 80 عامًا، أن تجلس وأنت صامت تمامًا لتتدافع في رأسك قصيدة لـ فيسوافا شمبوريسكا عن عجوز تكنس تراب الحروب، ولتتذكر مشاهد من "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ وتضغط على مشاعرك شخصية "الزيني بركات" فتكيل له الكُره الذي يستحقه.. أن تفعل كلّ هذا، وليس إلا هو، وفقط، ولا تضطر أن تفعل أي شيء هو حلم الكثيرين، وأنا منهم!

تتدافع في رأسك قصيدة لفيسوافا شمبوريسكا عن عجوز فتكنس تراب الحروب

أن تفعل كلّ ذلك ولا شيء غيره يعني أنك تملك الزمن الذي يفرّ من بين يديك طالبًا الرحمة ليلحق بزمن آخر، أن تملك ذاكرتك المشحونة بصورٍ تريد محوها ولغة تودّ لو لم تعرفها ومفردات تفسد عليك اللحظة التي تحاول فيها بكلّ بساطة أن تستمتع بفنجان من القهوة. 

اقرأ/ي أيضًا: هل هناك رسائل مشفّرة على جدران قصر الحمراء؟

أن تفعل كلّ ذلك ولا شيء غيره يعني أنك تقطع مع العالم لكي تتواصل معه، تبتعد لتقترب أكثر، تنجو مخلِّفًا مسافة تتمكَّن فيها من إطلاق العنان لذاتك المخنوقة بنفسها، يعني أن تعيد تربية نفسك من جديد بشكل يليق بأفكارك المتدافعة، يعني أنك نجحت في مراكمة إرادة مزدوجة بتعالٍ خفي، يجعلك تتوقَّف عن الخوف من الزمن، والعالم، ومن نفسك.

أن تستيقظ في الثانية صباحًا لأنك تذكَّرت "أصوات الليل" لمحمد البَساطي، لكنك لم تتذكر اسم البطلة، فتصول وتجول في المكتبة لتنسى أمر الليل وأصواته، وتلتقط ديوان ابن الفارض وتتساءل عن سبب تسميته "سلطان العاشقين"، وعندما يقفز اسم "بدرية" إلى رأسك تعود للنوم وقد استمتعت بمراقبة تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. تستيقظ ظهرًا ليمرّ عليك صديق يعرف كيف يمارس فنّ الصمت بين فناجين كثيرة من القهوة، ثم يترك لك مخطوط ديوانه الجديد الذي لن تتركه حتى تنهيه. أن تمضغ كلّ مفردة وتلوكها لتستشعر طعمها الحقيقي وتقدّم لها الوقت المطلوب لتترك علامة ما في روحك، وتتساءل بعد ذلك كيف يعيش ملايين البشر هنا وهناك بدون تذكُّر قصيدة واحدة أو حتى سطر من قصيدة، ثم تأخذك أفكارك نحو شاشة تليفزيون تظهر عليها علامة كتم الصوت لتتساءل ما إذا كان الشعر لديه قوة مساوية لقوة الرصاص أم أنها أشدّ سبيلاً.

أن تفعل كلّ ذلك ولا شيء غيره يعني أنك لست مضطرًا لفعل غيره. لست مضطرًا أن تجبر نفسك على النوم مبكرًا لتتمكّن من التركيز صباحًا في عملك، أن تفني وقتك في محاولة شرح حتمية قصيدة النثر لعقليات علقت في الزمن ولا تعرف شيئًا عن الشعر إلا الشعر العمودي وقصائد نزار قبّاني التي يغنيها كاظم الساهر. كلّ ما ستجنيه هو الإنهاك الكامل الذي يقوم به على أكمل وجه غرباء التقيتهم مصادفة في ندوة بائسة لإحدى الجماعات الأدبية المغمورة. 
أن تفعل كلّ ذلك ولا شيء غيره يعني أنك تملك الزمن والذاكرة والرفاهية التي تجعلك تقول "لا" بثقة لن يحسدك عليها الكثيرون، هؤلاء اللطفاء الذين لا يغضبون أحدًا، أبدًا.

أن تقرأ وتكتب وتشاهد وتستمع وتستمتع بما تفعله فقط يعني أن تقطع مع الحياة ماديًا لتعيد فهمها أصليًا، يعني أنك لست محتاجًا لأوراق مالية كثيرة تدفع بها فواتير هاتفك المحمول الذي تحاول عبثًا أن تتذكر بضعة أسماء لائقة هاتفتهم عبره فلا تنجح في إكمال أصابع اليد الواحدة، فتقطع وعدًا لنفسك وتقسم أنك ستتوقف عن إجراء تلك المكالمات التافهة وتلتقط بعدها ذاك الجهاز اللعين لتجري مكالمة تافهة أخرى ضرورية.

أن تقرأ وتكتب، أن تستمتع بفيلم لهونج سانج سو للمرة الرابعة يعني أنك مُرفَّه بالتأكيد

اقرأ/ي أيضًا: ميثم راضي.. باكورة النّار

أن تفعل كل ذلك ولا شيء غيره يعني صراحة أنك رفضت "المؤسسة" بكافة أشكالها الممسوخة والمريضة والمنحرفة والضاغطة والكاذبة، تلك المؤسسة الأخطبوطية التي تجعل كل من يقابلك يسألك السؤال الأبدي السخيف: "أين أنت مختف؟"، أو مثلًا يخبرك أنه غاضب لأنك رأيته منذ شهرين ولم تسلّم عليه! تودّ في تلك اللحظة أن تختفي فعليًا وأن تصمّ أذنيك وتحوّل بصرك عن المتكلم، في تلك اللحظة تشحذ كل هِمّتك البرجوازية التي تفرض عليك قواعد أدب القرود وتتفوَّه ببضعة جمل ممسوخة لا تعبّر إلا عن طبقات الزيف التي تراكمت داخلك والتي تجعلك تتمكّن من الابتسام بمهارة ولؤم لن يلحظهما أحد، لأنهم مثلك، جميعنا هذه المؤسسة. تلك المؤسسة التي تطلب منك أن تكون ناضجًا، ومميزًا، وفاضلًا، ومحترمًا، ومعتدلًا، وأن تعلن ولائك المطلق للحاكم ،وأن تُظهر رضاك الكامل عن: أحكام القضاء، وقرارات القيادة السياسة الحكيمة، وأداء رجال الجيش، والشرطة، والمخابرات، وأمناء الشرطة، والمخبرين، وضبّاط المرور، وارتفاع الأسعار ،وتفشي نوع غريب من الانحلال الاجتماعي والأخلاقي، وأن ترضى بالحروب المعولمة كقضاء وقدر، وأن تصبر على الظالم حتى يزول من تلقاء نفسه، والأهم أن تُظهر رضاك عن نفسك وتُبدي سعادة كبيرة أنك تحمل جنسية بلد هي أُمّ الدنيا و"هتبقى قد الدنيا". 

أن تقرأ وتكتب، أن تستمتع بفيلم لهونج سانج سو للمرة الرابعة يعني أنك مُرفَّه بالتأكيد، لكنك لست مرفّها على الإطلاق، بل أنت جزء من كلّ ذلك، أنت لست "الحارس في حقل الشوفان" الذي استخدم كلمة "زيف" حوالي خمسين مرة، ولا أنت السيد في "الفرافير" الذي يتحدث مع الجمهور كما يريد؛ فقط لأن يوسف إدريس قرر استعادة فكرة السامر الشعبي، ولا أنت "نظام العلمي" الذي ترك نفسه لمصير عابث في زمن لبناني مجنون، ولا أنت مايكل الذي قرر أن يغادر ببساطة وهدوء لأن الملل حاصره. 

أنت هو أنت، هنا والآن.

لا تمتلك زمنك ولا ذاكرتك، تقرأ وكأنك تسرق، تستمتع بقصيدة في الخفاء، تذهب إلى معرض تشكيلي بمفردك، وتشاهد أفلامًا لا تأتي أبدًا إلى صالات السينما، تكتب وحدك "خط الموت" على رقبتك، تؤجِّل فعل التذكُّر، وتؤجل إعلان رأيك الحقيقي في من حولك، لأنك لا بدّ أن تنام!

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس الرّافعي.. الكتابة بالعين

رباعيات الخيام وتشكيل العلمانية الغربية