تمثل العلاقات المصرية اليمنية حالة استثنائية شديدة التمايز والخصوصية، إذ يربط البلدين قائمة مطولة من القواسم المشتركة، المتنوعة بين الثقافي والسياسي والجغرافي، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فالدولتين يمثلان حضارتين من أقدم حضارات العالم، ولهما دورًا محوريًا في تشكيل حاضرة الإنسانية ورسم ملامحها قديمًا وحديثًا.
يعود التواصل بين صنعاء والقاهرة إلى عصور ما قبل الميلاد، حين دشن الملك تحتمس الثالث (1425 ق.م.) سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويعتبر مؤسس الإمبراطورية المصرية الحديثة، علاقات دافئة بينه وبين مملكة سبأ، وكان حريصًا على تعزيز تلك العلاقة بتبادل الهدايا بين الحضارتين، فيما كان التجار اليمنيون المورد الرئيسي للبخور الذي تعتمد عليه المعابد المصرية القديمة.
تعاظمت أواصر العلاقة خلال العصر الحديث في عهد محمد علي باشا (حكم مصر ما بين عامي 1805 إلى 1848) حيث سعى لمد نفوذ الدولة المصرية خارجيًا، وكان اليمن أحد أهم وأبرز محطات هذا النفوذ، فقوّى العلاقات التجارية معها، كما فرض سيطرة الدولة المصرية على طرق التجارة في البحر الأحمر وإنشاء أسطول مصري قوي سيطر على البحر الأحمر.
يعود التواصل بين صنعاء والقاهرة إلى عصور ما قبل الميلاد، حين دشن الملك تحتمس الثالث (1425 ق.م.) سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويعتبر مؤسس الإمبراطورية المصرية الحديثة
ومع بدايات الثورات التحررية العربية خمسينات وستينات القرن الماضي، كانت الدولة المصرية حاضرة وبقوة في المشهد اليمني، فشاركت في دعم ثورة اليمن من التخلص من الاستعمار البريطاني جنوبًا، كما كان لها دورها في دعم الثورة التي أطاحت بحكم الإمام محمد البدر حميد الدين، وأعلنت قيام الجمهورية العربية اليمنية في أيلول/سبتمبر 1962، وصولًا إلى التدخل العسكري المصري في اليمن والذي كان مثار جدل تاريخي حتى اليوم.
ورغم سحب القوات المصرية من اليمن في عام 1970 إلا أن الأخيرة كانت داعمة وبقوة للحرب التي خاضها المصريون ضد المحتل الإسرائيلي عام 1973، حيث أغلقت باب المندب طوال أيام الحرب أمام الملاحة الإسرائيلية ولم تفتحه إلا في كانون الثاني/يناير 1974، بعد توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأولى وبدء الانسحاب الإسرائيلي من غرب قناة السويس.
وشهدت العلاقات أجواء دافئة في تسعينات القرن الماضي، حيث رحبت القاهرة بالوحدة بين شمال اليمن وجنوبه، وعاشت العلاقات بين البلدين أوج قمتها وازدهارها خلال حكمي علي عبدالله صالح وحسني مبارك، حيث التطور اللافت في شتى المجالات، على رأسها الاقتصادية والتجارية والأمنية.
لكن سرعان ما تبدل الأمر بعد الربيع العربي 2011، حين سقطت اليمن في فخ التقسيم والطائفية، لتتأزم الأمور أكثر وأكثر بعد الحرب التي قادها التحالف العربي بقيادة السعودية ضد جماعة الحوثي، لتدخل العلاقات المصرية اليمنية نفقًا ضبابيًا من توتير الأجواء، لتجد القاهرة نفسها في مأزق كبير بين مقارباتها الأمنية والاقتصادية.
الحوثيون والمصالح المصرية
تكبد المصريون خسائر كبيرة منذ بداية الحرب بين التحالف العربي والحوثيين عام 2015، ورغم عدم مشاركة القاهرة في تلك العمليات عسكريًا، إلا أن تداعياتها على الجانب المصري كانت باهظة للغاية، خاصة خلال العامين الماضيين، حين زادت وتيرة الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر، كنوع من الدعم اللوجستي المقدم لإسناد جبهة المقاومة في غزة.
وأسفرت تلك الهجمات عن توتير الملاحة في البحر الأحمر وتعطيلها في كثير من الأحيان، على إلحاق أضرار بالغة في حركة الملاحة والمرور في قناة السويس المصرية، إذ تشير التقديرات الرسمية المصرية إلى انخفاض إيرادات قناة السويس في مصر بنسبة 40 %. بسبب هجمات الحوثيين، وأنه بحلول النصف الأول من شباط/ فبراير 2024، انخفضت حركة المرور في القناة شهريًا بنسبة 42 %، وتم تغيير مسار 586 سفينة حاويات، بينما انخفضت حمولة الحاويات التي تعبر القناة بنسبة 82% من ذروتها في 2023.
وبعيدًا عن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن هجمات الحوثيين على السفن البحر الأحمر، فإن تلك التطورات تحمل بين طياتها تحديًا كبيرًا للأمن البحري المصري، مما يستدعي تعزيز الإجراءات الأمنية على طول الساحل المصري وتأمين حركة السفن في قناة السويس، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تحمل الدولة المصرية تكاليف إضافية لهذا التأمين الحدودي الذي يتطلب تكثيف عمليات المراقبة والدوريات البحرية والجوية في البحر الأحمر، مما يزيد من العبء المالي على ميزانية الدفاع والأمن.
اللافت هنا أنه رغم كل تلك الأضرار والخسائر التي تكبدتها مصر جراء نشاط الحوثي في البحر الأحمر إلا أن القاهرة أبت الاستجابة للضغوط الممارسة عليها من الداخل والخارج للاشتراك في العمليات العسكرية ضد الحوثيين في اليمن، البداية حين رفضت المشاركة الفعلية مع التحالف العربي عام 2015 والمرة الثانية حين رفضت الانضمام للتحالف الدولي الذي دعت له الولايات المتحدة وبريطانيا مؤخرًا، الأمر الذي يثير التساؤل: ما الدوافع التي تقف وراء هذا الموقف المصري؟
الأمن القومي وفق المقاربة المصرية
قبل الإجابة عن التساؤل الخاص بدوافع القاهرة وراء عدم المشاركة في أي عمل عسكري ضد الحوثيين تجدر الإشارة ابتداء إلى إلقاء الضوء على مفهوم الأمن القومي وفق المقاربة المصرية، فهو المتغير المستقل الذي يجر خلفه كافة التوجهات والقرارات المصيرية التي ترسم السياسة الخارجية المصرية إزاء الملفات الساخنة والتي تتطلب الانخراط فيها بشكل أو بأخر.
تميل مصر تاريخيًا في الغالب إلى الأمن القومي بمفهومه الضيق، ذلك المتعلق بحماية حدود الدولة والحفاظ على منظومتها الأمنية الداخلية وبما لا يهددها بشكل مباشر، وهو ما جعل القاهرة تتأرجح كثيرًا بشأن التورط العسكري في الملفات الحساسة التي تحيط بحدودها، في غزة شرقًا، مرورًا بليبيا غربًا، ثم السودان جنوبًا.
حتى الملفات البعيدة عن الحدود والتي تشكل رقما صعبًا في خارطة الأمن القومي المصري كان التعامل معها في سياقها السلمي هو الخيار الوحيد، كما هو الوضع في ملف "سد النهضة" الذي يمثل تهديدًا كارثيًا للأمن المائي المصري بشهادة كافة الخبراء والتقديرات الدولية، كذلك الملف الصومالي، وصولًا إلى الوضع في اليمن والتهديدات البحرية التي تشتبك مع قناة السويس، أحد أهم الموارد الاقتصادية التي تٌنعش الخزينة المصرية بالعملة الصعبة.
تنطلق القاهرة في سياستها تلك استنادًا إلى مقاربتها التي تقول إنه "لا مشاركات في الحروب الخارجية"، فكثيرًا ما تردد مصر وتؤكد وتجدد التأكيد على أن جيشها لا يُشارك في أي أنشطة عسكرية خارج حدوده تحت أي سبب أو أي ذريعة، محاولة الاستفادة من دروس التجارب السابقة، خاصة في اليمن حين تدخل الجيش هناك ومُني بخسائر فادحة مادية واقتصادية.
لاشك أن هناك من يريد الدفع بمصر للتورط في الدخول في حرب في اليمن تحت زعم حفاظها على أمنها القومي وحماية لقناة السويس ودفاعًا عنها من الأضرار التي لحقت بها وأثرت على عوائدها الاقتصادية، غير أن الصوت الأعلى والأكثر وضوحًا الذي يخيم على الخطاب المصري حاليًا يرى أن خسارة بعض الملايين من العملة الصعبة الواردة من السفن المارة في القناة أقل بكثير مما قد ينجم عن التورط في المشاركة العسكرية، والدخول في الحرب كطرف مشارك فيها، وهو ما سيكون له تبعاته الكارثية، وهو ذات الصوت الذي يفرض نفسه على بقية الملفات الساخنة المختلف عليها بشأن الانخراط العسكري فيها.
تنطلق القاهرة في سياستها تلك استنادًا إلى مقاربتها التي تقول إنه "لا مشاركات في الحروب الخارجية"، فكثيرًا ما تردد مصر وتؤكد وتجدد التأكيد على أن جيشها لا يُشارك في أي أنشطة عسكرية خارج حدوده تحت أي سبب أو أي ذريعة
مسارات التعامل مع الأزمة اليمنية
تتحرك مصر في تعاطيها مع الأزمة اليمنية من خلال استراتيجية الدعم المُقسم إلى مسارين:
الأول: الدعم السياسي الدبلوماسي، حيث تؤكد القاهرة دوما دعمها الكامل للخيار الدبلوماسي والجهود المبذولة للتهدئة وفق مرجعيات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية هذا بخلاف مخرجات الحوار اليمني اليمني الذي احتضنته الرياض برعاية مجلس التعاون الخليجي، وكانت الخارجية المصرية قد رحبت بإعلان الأمم المتحدة، في 2 حزيران/ يونيو 2022، عن تمديد اتفاق الهدنة في اليمن، ودعوة كل الأطراف للجلوس على طاولة المفاوضات للخروج من هذا المأزق بهدوء.
ويقف النظام المصري على مسافة شبه واحدة بين طرفي الأزمة في اليمن، الحكومة الشرعية وفي ذات الوقت فتح قنوات اتصال مع الحوثيين وإن كانت محدودة وعلى فترات لكنها لم تغلقها بشكل كامل، وهو ما يحافظ للقاهرة على حظوظها في القيام بدور الوساطة في حلحلة هذا الملف.
الثاني: الدعم الإنساني، حيث تتخذ مصر في العادة من الدعم الإنساني جسرًا دبلوماسيًا لتغليب السياسة على أي خيارات أخرى، إذ كان له حضورها اللافت في المشهد اليمني إغاثيًا، حيث ساهمت في إعداد شحنة مساعدات من المستلزمات الطبية خلال تفشي جائحة كورونا عام 2019 /2020 هذا بجانب شحنات المساعدات الغذائية والصحية التي قدمتها خلال الفترة بين 2015 – 2018.
وتؤمن القاهرة أن حل الأزمة اليمنية لن يكون عسكريًا، وأن المسار السياسي هو الخيار الوحيد لإنهاء تلك المعاناة، إذ ترى أن اللجوء إلى الحل العسكري الذي تطرحه الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، في مجابهة التوترات في البحر الأحمر، لن يزيد الوضع إلا اشتعالا ويزيد من تفاقم الأزمة.
لماذا لم تشارك مصر عسكريًا في ضرب الحوثي؟
في ضوء ما سبق نصل إلى إجابة السؤال الأهم الخاص بالدوافع التي تقود مصر لرفض الضغوط الممارسة عليها للانخراط في استهداف الحوثيين عسكريًا، سواء كان ذلك تحت لواء قوات التحالف العربي أو الجبهة الدولية، تلك التي تنحصر في قائمة مطولة أبرزها أربعة أسباب رئيسية:
-سعي القاهرة للحفاظ على دورها كوسيط من خلال الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف مما يسمح لها بالقيام كحلقة وصل بين الحكومة الشرعية وحليفها الخليجي من جانب، والحوثيين وإيران من خلفهم من جانب أخر.
-تجنب مصر التورط في الأزمة اليمنية كطرف حرب، وهو ما سيكون له تداعياته الخطيرة على كافة المستويات، خاصة إذا ما تعامل الحوثيون مع القاهرة كعدو أو خصم مباشر، وهو ما لا يصب في صالح الأمن القومي المصري.
– التزام النظام المصري بعقيدته العسكرية الرافضة لتوريط الجيش في أي مهام خارجية، خدمة لأجندات أخرى، وهو النقطة التي تعرضت بسببها الدولة المصرية للكثير من الانتقادات بشأن تعاطيها مع بعض الملفات الساخنة التي تطوق الأمن المصري وتشتبك مع سيادة البلد واستقلالها الوطني.
-القلق من انعكاسات الانخراط عسكريًا ضد اليمن على الجبهة الداخلية المصرية، حيث احتمالات زيادة الغضب الشعبي واتهام النظام بدعم الكيان الإسرائيلي وتنفيذ الأجندة الصهيونية في القضاء على الحوثيين، حتى لو كان التحرك من باب الحفاظ على الأمن القومي والمصالح المصرية، غير أن هذا قد لا يكون مقنعًا لشريحة كبيرة من المصريين، مما يتصاعد معه السخط وهو ما يتجنبه النظام الحاكم في مصر.
-تتخوف مصر في حال مشاركتها في استهداف الحوثيين من اتساع رقعة الحرب، ولجوء الجماعة المدعومة إيرانيًا إلى إشعال المنطقة وزيادة توتير الأجواء في البحر الأحمر، كرد فعل على تلك المشاركة، الأمر الذي ينذر بنشوب حرب إقليمية ربما تفتح المجال لتدخل قوى إقليمية ودولية أخرى، وهو ما يضر ويهدد الأمن القومي المصري.