04-مايو-2017

عبد الله بشار/ السودان

رحل؟
أين رحل؟
هل هذا سؤال؟ يا لغبائك! قل لماذا رحل؟
لا ولا هذا.. كيف رحل وهو لايزال حيا؟
هاهاها.. لا هذا ولا ذاك
السؤال الحقيقي: كيف يتركنا ونحن نحبه، ونؤمن به؟
قالت امرأة لا يعرفونها بصوت خافت أقرب للهمس: سؤالنا الحقيقي جرحنا الحقيقي كبرياؤنا الذي ننسى أن ننساه.
*

تعالي إلينا يا من خلقت شمسًا تهب صخورنا الميتة نبضات الحياة.
*

على دفء نار الحطب جلس ثلاثتهم، إيمان ومدحت وليلى، كانوا يقصدون المتعة في جبال البحر الأحمر، ولكن عيونهم تلمع حزنًا على فراقه.
*

تغيب ونورك عن القلوب لا يغيب
يكفر الناس بك، ويظنون نورك نوري.
أتراني أكفر عندما تنظر عيني إليك
أتراك تكفر أنت أيضًا عندما تشير بإصبعك إلى الشمس.
*

هل تذكرون حكمة قالها؟
نعم أذكر واحدة: لولا أنانا التي في القلوب، لما كان أبانا الذي في المخابرات
كاذبة.. لقد قال لولا أبانا الذي في المخابرات لما كانت أنانا التي في القلوب.
*

"الربيع أتى فلا تفتح قلبك للزهور، بوصة واحدة من الحب بوصة واحدة من الرماد".
*

كان يبحلق في السماء طوال الليل، إلى الدرجة التي اغتظت فيها.
"إلام تنظر يا مخبول؟"
ابتسم كما الأطفال وقال: "أنظر إلى النجوم، ولكن السؤال الذي يحيرني إلام تنظر النجوم؟"
"إلينا"
"وإذا انتهينا فهل ستتوقف عن النظر؟"
*

شعور غامض ومشرق انتاب القطة وأبناؤها الأربع يرضعون من ثديها، وهي في سكرة إشراقها، أكلت أبناءها بلذة، هدأ جسمها دفئًا، وانتابتها شهوة غريبة لأكل البشر، انطلقت تعدو لأول مرة بلا خوف.
*

تخرج إيمان بعد أن قررت أن تحرق كل كلماته، ليس من كتبه التي في مكتبتها ولكن من روحها، مر على ذلك زمن.
بينما تشتري لوازم إفطار رمضان، رأت الجميع بوجوه بائسة، حادثة بين دراجة نارية وسيارة تاكسي، البائع يزعق فيها لبطئها أثناء التبضع، قفزت إلى ذاكرتها كلمة محروقة: الحكمة هرتلة سايكليديك، ولكن تقبلها الناس بقبول حسن.
عاداتنا وتقاليدنا وسلوكنا هو جنون جماعي متفق عليه، ولن يسمحوا لأحد أن يفسد عليهم جنونهم.
استعاذت إيمان بالله من الشيطان الرجيم، هدأت روحها، وأكملت  تبضعها.
*

كلما ابتعدت كلما اقتربت
وكلما اقتربت كلما اغتربت
وكلما اغتربت كلما سكت
وكلما سكت كلما صمت
وكلما صمت نطقت
بأرفع الكلام
"قبسات لم يكتبها النفري"
*

منذ أن اعتزل البشر، فقد إحساسه بالزمان، والهوية، جلس مدة يعيش على ذكرياته، يرى أصدقاءه في أحلامه، ثم بدأ يسمع أصواتهم، ضحكة ضحكتها إيمان على نكتة له، آهة نهى على السرير بعد أن استمتعت بممارسة الجنس، تقريظ مدحت وهو يقرأ كلماته، يتذكرها ويبتسم.

فجأة.. بعد مرور شموس لم يعدها، اختفى العالم، وشعر بألوهيته، يفتح عينه، إنه خالق هذا العالم، المنظر البديع لنخلة ووادٍ يتفجر من تحتها، صوت الكروان الذي يسمعه، الهواء العليل المحمل بشيء من الغبرة الذي يتنفسه، موسيقى سامية وعصية على الفهم والترجمة.
أنا الرب وهذا الكون كوني.
وبات كلما آنس إنسيًا استوحش، وكلما آنس وحشيًا استأنس.
الإنسان عدو الإنسان، وما الحب والصداقة والعشق إلا كفر جميل.
عيون أصدقائك عيون هاويتك، فما بالك بأعدائك.
*

ها وقد كان يعتقد أن عالمه ما يملكه، وأنه مبدع ومختلف عندما يصيغ العبارات المتفردة، يبتسم ساخرًا وهو يرى هذا العالم، غبرة غبرة، وبداخله يقين غريب أليف أنه من خلق هذا العالم.
عندما أغمض عيني يموت العالم، وعندما أبصر ينبعث مرة أخرى.
العالم يحتاجني، يجتاحني ليُرى، وأنا أحتاجه، أجتاحه لأرى.
كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفوني.
النجوم البعيدة تهتز لموت إنسان وتهتز ثانية لحياته.
*

وهو على قمة الجبل الأحمر، يتأمل الشمس وهي تجر أذيالها الحمراء، رأى شقًا نورانيًا في السماء، هبط منه كائن بجسم إنسان وله ثلاثة أجنحة، لم يخف، لم يعد يخاف.
اقترب منه، ابتسم.
اقرأ- اخش = اخشع
ما أنا بقارئ - خائف - خاشع
اقرأ 
ما أنا بقارئ
ثم تركه وانصرف.
*

لم يعد يفكر إذا ما كان ما يراه ويسمعه ويفكر فيه هلوسة أم حكمة، كان يعتقد أن كل أفكاره من روحه، وكل الأشياء التي يراها مخلوقاته، حتى لبات يعتقد أنه لو أراد أن يزحزح جبلا لزحزجه، أو يثبت شمس لثبتها، ولم يحاول أو يخطر على باله أن يجرب إيمانه هذا، لأنه كان قويًا بما يكفي في روحه.
*

دكتور أحمد ماهر يشرح للطلبة في مادة الإبداع عن العلاقة بين الإبداع والجنون، ويرى أن معظم الأدباء مختلين عقليًا، وذلك راجع إلى ضعف في شخصيتهم، يجعلهم ضعفاء عن التكيف الاجتماعي، مما يجعلهم يختارون العزلة والانتحار والجنون، وضرب مثلًا بسيد باريت مؤسس بينك فلويد، والأديب النمساوي الكابوسي، ووليام بليك والنفري.
وفي آخر قاعة المحاضرة، تسللت يد شاب بين جنبات فستانها وأندرها، وعبثت عبثًا جميلًا بزهرتها، ليزداد بياضها احمرارًا، ويغشى عليها من النشوة، ووجهها محتفظ بابتسامته.
*

ابتسم وهو يفكر في الكائن الغريب الذي زاره، لقد تحررت من... وجد نفسه يقول:
الأسطورة مكيدة، والحرية قصيدة.
*

لا ينطق إلا قليلًا قليلًا، لكلماته المنطوقة صدى، يتلاشى رويدًا رويدًا، وهو شغوف بما يعتقده، وما يقوله، وما يسمعه.
يقول:
شغفي بشغفي شغفي.
*

تقول إيمان وقد استفزها كلام مدحت عنه "إنه عديم المسؤولية، شخصية عدمية لا تؤمن بإله، ولا تحترم الحياة والروح".
"إنه لم يتركنا، نحن الذين تركناه، كان معنا، نفرح ونرقص ونسافر، ولكن قلوبنا لم تحسه، عيوننا لم تره، آذاننا لم تسمعه، لقد تركناه وهو هو لم يتركنا لأنه لم يكن معنا".
"االلعنة على العالم"
"اللعنة على الإنسان"
*

العشق يهز عرش السلطان خوفًا
ويهز عرش الإنسان شغفًا.
*

نسي أصدقاءه إلا لممًا، شيء واحد لم ينسه، يشوش عليه عينه وأذنه وأنفه، رفيف أجنحة الكائن الغريب وهو يرجع إلى شق النور في السماء، كان موليًا ظهره إليه، أراد أن يقول له تعال سأنفذ ما تأمرني به، ولكن أخبرني من أنت؟ لا أخبرني من أنا؟ حفيف أجنة الكائن الغريب ذكرته بحنين غريب وقاتل، بات يتضايق بعدها ولكنه تضايق أليف وحميم، من عالمه الذي خلقه.
كلما رف ملاك بأجنحته اشتاقت روحي إلى الفردوس.
الإنسان الإنسان الذي يحتضر عندما يحضر.
فكر ثانية أنه كتب تلك الكلمات، وأذاعها بين الناس، هل سيفهمونها، وهل تمنحه جوائزهم وتقديرهم الإشباع الذي يعيشه، اللعنة على حياتي مع الناس كيف كنت أطيقها.
صمت دهرا ثم قال:
إذا كنت تستطيع فاحكم قلب الشمس، فإن لم تسطع فأنت لن تستطيع.
*

لا أحد في هذا الفضاء المطلق من الأصوات والألوان والروائح غيري يغير علي مني.
*

عاد الثلاثة، أصدقاؤه، من أوروبا استلموا جائزة عالمية على الحركة الأدبية التي قلبت موازين الكتابة الإبداعية، أخبرهم صديقهم القديم أنهم عثروا على جثته في الصحراء، كما هي لم يأكلها الدود.
وعندما دخل ثلاثتهم المشرحة، وحدقوا فيه.. إلى ابتسامة محيا جثته.. عبسوا وتولوا.
*

سأل نفسه وهو يكتب بضع كلمات في صحراء ملونة، لماذا يكتب إن كان لا أحد يقرأ كلماته، لماذا يكتب إن لم يكن هناك قارئ.. غنى كروان، واهتز الشجر.
*

"أجننت يا صديقي، تكتب كل هذا الإبداع ولا تريد أن تنشره، ولا تريد أن يخلد اسمك في التاريخ؟!"
"لن أسمح أن تكون كلماتي غذاء للأنا عند الناس، ولن أسمح لروحي أن تكون مرآة لوجوه الخائفين والعاجزين والفاسدين".
"فلماذا تكتبها؟".
"هكذا.. لو كان الأمر بيدي لما كتبت حرفا، ولقتلت نفسي بالسكين منذ زمن".
"إذن بيد من؟".
"لا أعرف.. وأعتقد أن جهلي هذا هو الذي جعلني حيًا لهذه اللحظة، وهو الذي يدفعني إلى الكتابة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تفسير المنفى

أنام محتضنةً سكينًا