30-نوفمبر-2015

رضوى عاشور (1946-2014)

في الثلاثين من تشرين الثاني/نوفمبر، رحلت رضوى عاشور عن دنيانا. رحلت ابنة القاهرة التي لم تقهر أبدًا. وضع جثمانها داخل صندوق دافئ، وأحيط به من أحبتهم قيد حياتها. جنازتها كانت أنيقة وحزينة في الوقت ذاته، ورحيلها كان مختلفًا كما حياتها.

رضوى عاشور لهفةٌ وحميمية ودفء يحسّه كل من يقرأ "الطنطورية" و"الصرخة"

سنة كاملة، بأيامها ولياليها على رحيل رضوى عاشور، أم تميم البرغوثي، وزوجة مريد البرغوثي، رضوى الأم، ورضوى الزوجة، ورضوى الحبيبة، ورضوى الكاتبة، لا يمكن لأيّ أن منا أن يتناسى واحدة من هذه الصفات، فرضوى أدت دورها في الحياة وأتقنته.

صورة رضوى لم تفارق ذهني. لم ولن أنسى صورة نعشها يتوسط رحاب مسجد، وحبيباها في الدنيا مريد وتميم، يخرّان عليه في رثاء لأنثى حياتهما، يبكون رحيلها المفجع، معزين أنفسهما بكلماتها التي لن تموت، كلمات كتبتها برحيق سهر أيامها، وعيونهم تقول ماتت رضوى وعاشت كلماتها.

يوم موت رضوى عاشور وصلتني رسالة، على حسابي في الفيسبوك، من صديقة تشاطرني حبّ السيدة "رضوى ماتت"، تاه عقلي بين مسارب لا نهاية لها، وصرت أقرأ بين حروف الكلمتين، عن أي رضوى تتحدث هذه؟ المهم ألَّا تكون أم تميم. خالطني إحساس الخوف باليقين، وبنقرة على محرك البحث تأكدت أنها رضوى عاشور. نعم هي رضوى المصرية. أنظر اليوم إلى صور رضوى بامتنان، يتراقص داخلي فرح عميم كلما قرأت لها وعليها، وكل الفخر ينتابني وأنا أرى تميم، ثمرة حبها من مريد، الذي منعه حاكم مصر حينها من العيش بجانب زوجته، لا لشيء غير أنه عارض حكمه. رضوى التي كابدت عناء تشتت أسرتها، وجعلت كل الأيام أمامها، حلوها ومرها، لتبصم تاريخ المرأة التي طوعت اللغة والأيام.

نالت رضوى عاشور في اليونان سنة 2007 جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب، وتوجت بجائزة تركوينيا كارداريللي في النقد الأدبي في إيطاليا، لكن تتويجها الكبير في قلب محبيها، هو الأناقة والعفوية الأدبية التي ميزت كتاباتها وعمرت بعد وفاتها.

قال زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي في إحدى الليالي التأبينية لرضوى عاشور: "هذا ليس يومًا للبكاء". فهي الحاضرة التي لا تموت. تحدث عنها مريد واصفًا طلتها وابتسامتها الصباحية، وقهوتها المعطرة بحب كل مساء، تحدث مريد ونظم عنها قصيدة مطولة عنونها بـ"رضوى"، لعل ما أتذكر منها "كذلك حبك يدخلني ويشرف وجه القصيدة.. أنا الشاعر.. وأنا والشعر لعينيك..".

لم تعد رضوى عاشور هناك لتشم رائحة الحزن في بيتها الذي ملأته حبًا وجمالًا طيلة حياتها

يا رضوى الغائبة البعيدة، أراك أنا المتحيزة والمحبة لك، أراك بين كلماتك، أراك وأنا أتطلع على ثلاثية "غرناطة" المرصوصة بعناية في رف مكتبتي، أراك تقولين ما أحببته منك: "لكل أولئك الذين أحبونا ولم نحبهم كما ينبغي: سلامًا طيبًا ووردة".

عزاء رضوى عاشور المصرية كان ناعمًا. كان بالقرب من نهر النيل الخفيف، النيل الذي أحبته في أيام حياتها، الذي جلست بالقرب منه وهي تكتب كلمات رواياتها أكثر من مرة، النيل الذي شكت له صراعها مع مرض خبيث ألم برأسها وزرع في ذاتها العجز الذي طالما كرهته. أتذكر رضوى كلما فتحت ثلاثيتها: "غرناطة"، و"مريمة"، و"الرحيل"، أتذكر لغتها المحفوفة بالكلمات البسيطة، المحتفية بجمال اللغة العربية ورصانتها وإيقاع شعرها. رضوى لهفة وكلمات عاجزة عن الشفاء، حميمية ودفء يحسه كل من يقرأ "الطنطورية" و"الصرخة".

رحلت ولم تسمع صرخة تميم اليتيم بعد موتها، لم تسمع أنين مريد بجانب نعشها، لم تلمح منظر حبيبيها يتلقيان عزاءها، ولم تشم رائحة الحزن في بيتها الذي ملأته حبًا وجمالًا طيلة حياتها.

اقرأ/ي أيضًا:

"كان نائمًا حين قامت الثورة".. ما لن يقرأه السيسي

ضبط إيقاع التفاصيل