22-أغسطس-2017

الشاعر رضا العبيدي

أكاد أوقن أنّ الشعر لم يكن يومًا صناعة أو بهرجًا صوتيًّا أجوف، إنّما هو حضور في هذا العمى الكونيّ، واختراق حارق لعبثيّة تزداد تناقضاتها، وإيغال مؤلم في أنفاق النفس البشريّة ودهاليزها، وازداد ايماني بذلك عندما قرأت مجموعة" فوق رصيف بارد" (دار رسلان، تونس 2017) للشاعر التونسي رضا العبيدي، الفائزة بجائزة "معرض الكتاب الدولي" (2017).

نصوص رضا العبيدي مفتوحة على مسارات شتّى للتأويل تدعونا في أغلبها إلى التساؤل حول الزمن

مع رضا العبيدي يغدو الشعر اقتناصًا للمشاعر المجرّدة وللأطياف الروحيّة عبر تفاعل الأشياء مع محيطها وانعكاسها على الذات الشاعرة، لذلك نرى الشاعر يتأمّل المهمل ويبحث عن الحياة فيه وفي أرجائه، فالحياة التي تتنفّس خارجنا قد تكون أكثر كثافة، بل هي حيوات ثريّة، لكنّ هذا الثراء يحتاج دائمًا إلى من يزيح عنه الغبار، غبار العادة والتعوّد، وغبار الرّتابة التي تكلّس الانسان وتجعل منه أحيانا مجرّد آلة تتنفّس. يقول الشاعر في "باب طلي بالأزرق كي تخفى دموعه":

الباب المشدود إلى الحائط

ينفتح

وينغلق

دون أن يقدر على المغادرة

ولو لفسحة قصيرة

محكوم عليه ألّا يجتاز العتبة

الباب الذي كان أغصانًا في شجرة

(كم من طيور حطّت فوق أفنانها

كم من أعشاش

أفاق على الزقزقات الأولى لفراخها

وكم من ريح راقصته)

شدّ وثاقه إلى حائط الإسمنت

وحتّى لا ترى دموعه

- لدى كلّ انفتاح أو انغلاق –

طلي بالأزرق.

اقرأ/ي أيضًا: صورة ضائعة مع وديع سعادة

يبتعد الشاعر رضا العبيدي عن التصنّع والصناعة اللّذين يفسدان الشعر، ويترك الأحداث والمشاهد واللوحات تعبّر عن نفسها بنفسها مانحة ذواتها، بكلّ سخاء، للقارئ، ليتحرّك في أعماقه شعورًا أو انطباعًا أو فكرة ما... ولعلّ هذا ما يسم شعر العبيدي بالانبثاقيّة والعفويّة، فالتفاصيل التي لا ينتبه إليها تغدو نبعًا شعريًّا دافقًا، يكيّفها بطريقة مدهشة في لفائف إرهاصاته الروحيّة، فتصبح التفاصيل والمشاهد مشاعر ساطعة ومشرقة. وهنا يقع التوحّد مع الكون والانخراط في تضاعيفه والاندماج بين أشيائه ومساءلتها، حتّى أنّه يتلبّس بها وتتلبّس به فاذا بها كائنات حيّة تشعر وتتأمّل وتسأل... ولرضا العبيدي طريقة مخصوصة في بناء نصوصه ساعدته على مساءلة العالم، فكلّ نصّ تقريبًا يعتمد على نواة مركزيّة، تتوسع تدريجيّا مثل حجر يلقى على صفحة الماء السّاكنة، فيثير دوائر مائيّة تتوالد وتمتدّ إلى أن تتلاشى بعد أن تحرّك صفحة الماء الراكدة. فعل الحجر في صفحة الماء هو فعل نصوص العبيدي في ذواتنا، لكنّ هذه النصوص لا تسير نحو هدف معيّن، وإنما هي نصوص مفتوحة تبقيك معلّقًا بين السماء والأرض، لا تختم بطريقة حاسمة لكن تبقيك مصدومًا وتدفعك إلى أن تفكّر طويلًا.

هي نصوص مفتوحة على مسارات شتّى للتأويل تدعونا في أغلبها إلى التساؤل حول الزمن الذي يحمل إلينا المشاهد والأحداث والأشياء، تمرّ بنا ولا ندري ما الحكمة منها. فالشعر عند رضا العبيدي لا يعلن عن شيء، إنما يسعى إلى رسم أطياف الروح البشرية وتحوّلاتها، أدواته في ذلك تفاصيل مهملة وأشياء مهمّشة وأحداث يوميّة.

هو يستنطق الأشياء حتّى تخبر عنّا، تجوس خلال أرواحنا وتكشف هواجسنا الأكثر غرابة وجنونًا وإدهاشًا، فالإدهاش وسيلة يعتمدها رضا العبيدي لالتقاط ملامح الحياة في الضفّة المقابلة للواقع، وبذلك يخلق مسافة بين القارئ وذاته ببحثه الدؤوب عن الشعر بعيدًا عن غبار الأيام. الشعر هنا زمن خارج الزمن. حياة تحلّق فوق الوقت. وربّما –على هذا الأساس- تبدو نصوص الشاعر ممارسة لنوع من "الإخراج الشعريّ"، عبر النزعة المشهديّة والسرديّة التي تنمو وتطّرد بصورة مذهلة، فيشعر القارئ أنّه أمام ركح تتراقص عليه الذكريات والأفكار والمشاعر، وتباغتنا وقد تلوّنت بألوان روحيّة باهرة. يقول في نص "طفولة":

"أتذكرين بالونة العيد الحمراء

التي نفخناها معا بالتّداول

في ذلك الزّقاق القديم من طفولتنا

ثمّ طيّرناها

ولاحقنا طويلًا

- في عاصفة الحبور-

كوكب أنفاسنا الممتزجة

كوكب أنفاسنا الطائر..؟

اليوم اذ تذكّرت ذلك العيد القديم

رجعت طفلًا

ذهبت إلى مغازة الألعاب

اقتنيت بالونة حمراء

هرولت بها إلى بيتي

وفي خلوتي،

رسمت عليها وجهك الصغير

كما هو في ذاكرتي

ثم طفقت أنفخ البالونة

أستنشق الهواء بأنفي

وأفرغه بفمي في البالونة كالزّفرات

كان وجهك يتّضح أكثر

كلّما نفخت

فانتشيت وتماديت في النفخ

محدّقا في وجهك الجميل

وقد التصق بوجهي

كأننا في قبلة طويلة

كأنّ أنفاسنا تمتزج..

إلى أن صارت البالونة أكبر من رأسي

 وانفجرت".

في مجموعته "فوق رصيف بارد"، يترك الشاعر رضا العبيدي الشعر يعود إلى منابعه الصافية

اقرأ/ي أيضًا: ناجي رحيم.. الشاعر، السبّاب، الحسّاس

أراد رضا العبيدي للشعر أن يعود الى منابعه الصافية، ينبثق عفويًا فيشقّ مساره ويحفر مجراه، انطلاقا من ذاته الشاعرة، فيعطي رمزيات جديدة للأشياء ويجعل الكون جزءًا من كيانه، يمتزج بروحه ويخرج في أشكال لم تكن له يومًا، فهو يقول ذاته شعرًا ويكابد من أجل ذلك، وعلى هذا الأساس بدا شعر العبيدي ذاتيًّا إلى حدّ بعيد، لا علاقة له بالجماعيّ، إنّما هو ينكتب عبر رؤية الذات في مرآة الذات، ومن هنا نلمس ما يصبو إليه أغلب الشعراء الحداثيين وهو الارتماء في المجهول، وجعل النصّ الشعريّ مغامرة غير محسوبة العواقب، كفيلة بخلق آفاق تقبّليّة لا حصر لها. يقول في نصّ "هوس":

أحيانًا أخرج

وأطلب نفسي على رقم هاتفي القارّ

دائمًا لديّ إحساس بأنّ أحدًا ما

يملك نسخة من مفتاح بيتي

قد يرفع السمّاعة يومًا

قد يجيب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد العظيم فنجان.. كمشة سرد

باسكار شاكرابورتي.. شاعر يكتب الصمت