20-سبتمبر-2016

من الفيلم

تعيش منطقة "حيّ السَلُم" الواقعة في ضاحية بيروت الجنوبية تحت وطأة الاستهتار الداخلي، الاجتماعي والصحّي، وبالطبع لا نفوذ لأي حكومة لبنانية مرّت على تاريخ السياسة اللبنانية منذ تأسيس منطقة حيّ السلم على هذه المنطقة. إنها المنكوبة والمنسية والمنطقة التي يهابها معظم سكان الجمهورية اللبنانية. هل علينا أن نضع مؤثراتنا الصوتية الخاصة فوق كل ما يظهر بالصورة في هذه المنطقة لتليق بالدولة والمجتمع اللبناني؟

يصور فيلم "رصاص بلا رصاص" همجية القوى الأمنية اللبنانية في التعامل مع متظاهري حيّ السلم" 2004

إنه الفيلم المنكوب، الذي لم يشتهر، والذي بقي مستقلًا بإنتاجه من لحظة تصويره إلى ما بعد مونتاجه. وحتى أن القائمين على هذا الإنتاج قرروا أن يسموا شركتهم أو الطرف الرسمي الذي يرعى الفيلم "المركز الإعلامي المستقل - بيروت". لا تواجد لاسم مخرج، معدّ، منتج، ممثل أو أي من الذين شاركوا في إنتاج هذا الفيلم (35 دقيقة) في الجينيريك الأخير، بل هناك تعريف بسيط للمجموعة بالتالي: "المركز الإعلامي المستقل هو تجمع إعلامي بديل ومستقلّ يعتمد على العمل التطوّعي التشاركي، ويهدف إلى خلق منبر مستقل لإفساح المجال أمام المهتمين لتنظيم تغطية كافة الأخبار عن النضالات والقضايا المهمشة في الإعلام السائد والموالي للقوى السياسية والاقتصادية المهيمنة - لا تكره الإعلام، كن أنت الإعلام". 

اقرأ/ي أيضًا: فادي أبو خليل.. مانفيستو الظل

هذا التعريف كافٍ لفتح موضوعين أساسيين للتحدث عن الفيلم والحقبة التي يمر بها. أولًا، أن يكون هناك وسيطًا مستقلًا للوصول إلى الجمهور الذي يشاهد الأخبار اليومية عن الإضراب العام الذي دعت له النقابات العمالية اللبنانية في أيار/مايو 2004، وكان قد انتشر هذا الإضراب على كامل الأراضي اللبنانية من دون استثناء من جهة، وفكرة أن يكون هناك ما يُسمى بالإعلام البديل في بيروت، وهو ما تحتاجه الشاشة التلفزيونية اللبنانية التي انقسمت طائفيًا وحزبيًا بين الحكّام اللبنانيين.

ينتقل الفيلم من المساحة التي ممكن أن تُصَوَر على كامل الأراضي اللبنانية خلال التظاهرات التي اندلعت عام 2004، ليركز على همجية القوى الأمنية في التعامل مع متظاهري منطقة "حيّ السلم" في ضاحية بيروت الجنوبية. وفي الضاحية، ضربت القوى الأمنية الاعتصام القائم هناك بقتل 5 عمّال وجرح المئات (600 شخص حسب معلومات أدلاها أحد الشهود على هذه المظاهرة). بكل بساطة هذا الفيلم يروي الأحداث التي جرت في حي السلم بدون أي ترخيصٍ إعلامي، بدون أي موافقة أو ملاحقة للمعاملات البيروقراطية التي يمر بها الإعلاميون والمخرجون المستقلون اللبنانيون. أنتج هذا الفيلم بشعبية الذين تُقطع كلماتهم المسجلة على شاشات التلفزة اللبنانية، ليوثق اللحم والدم الذي يغلي أمام الحكومة اللبنانية، وكيفية تعامل السلطة مع الحركات العمالية والشعبية.

لا تحضير في المقابلات، لا مواعيد، لا أسامي، لا تعريف، لا جهوزية في التحضير الإنتاجي ما قبل التصوير. وعلى القول اللبناني "بلا تجهيز، بلا بلوط". ببساطة الأعمال البصرية التي تولد من صميم واقعٍ أو حادثة معيّنة تبقى كما هي في إطار الكاميرا المتحركة في الأماكن الخاصة بموضوع الفيلم التسجيلي. والأفلام التسجيلية تنقسم بين تصنيف الفيلم الوثائقي الذي يعتمد على بحث مقدم عن موضوع معيّن ومن ثم تضاف إليه اللقطات الواقعية والعفوية التي تُسجل أثناء التصوير. ولكن التصنيف الآخر فهو الفيلم التسجيلي البحت، الذي يعتمد أساس إنتاجه على العفوية ومن ثم يُضاف إليه ما لم يُشرح في الفيلم عبر نص أو تسجيل صوتي إضافي للفيلم؟

فيلم "رصاص، بلا رصاص" هو فيلم تسجيلي بحت، لا يعتمد على أي إنتاجٍ "بحثي" أو أي من الأعضاء الأساسية في التصوير الوثائقي

اقرأ/ي أيضًا: "فيلم كتير كبير".. إلى الأوسكار

فيلم "رصاص، بلا رصاص" هو فيلم تسجيلي بحت، لا يعتمد على أي إنتاجٍ "بحثي" أو أي من الأعضاء الأساسية في التصوير الوثائقي. هو مزيج من اللمسة الإعلامية الحرّة التي تكمن بين أيدي من أنتج هذا الفيلم، الذي اعتمد بالأولوية الإنتاجية على المتضررين من الدولة اللبنانية في منطقة حيّ السلم. هو كلام يمر في الشارع اللبناني من المتسكعين في هذا الشارع من مضطهدين وعمّال وعاطلين عن العمل من الطبقة الفقيرة اللبنانية التي لا اعتبار لها في العيش المشترك اللبناني، لا من المجتمع ولا من الحكومات التي كانت وما زالت وستبقى بأيدي الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان من فاسدين سياسيين ومورثي مقاعد وزارية ونيابية ورئاسية وحتى حزبية. لكن هذه الجملة التي مرت عليك أيها القارئ لا تلغي بأن حتى النقابات العمالية في لبنان أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المسبحة المليئة بالفساد والنهب والكذب على الشعب، فالنقابة التي ولدت من أجل مطالبة السلطات بإعطاء من ينتمي إليها في التسجيل النقابي حقوقه من ضمان اجتماعي وصحي، أصبحت بقياداتها تُعرف بتوافقها السريع بدون أي محاربة أنها ترضخ أمام السلطة مقابل حفنة من المال أو عبر تهديدات مباشرة من قبل السلطة (التهديدات بالتعذيب النفسي للنقيب ولعائلته على سبيل المثال).

ورغم كل شيء، ورغم خيانة النقابات لمنتسبيها، ورغم الغطرسة والقمع الذي تمارسه الدولة اللبنانية بشكلٍ دائم على أي شكل من الاحتجاجات المطلبية في لبنان، خرج الآلاف من اللبنانيين إلى شوارع حيّ السلم ليقفوا أمام الرصاص الحيّ الذي أطلق بوجههم من قبل الجيش اللبناني. رغم كل شيء، ما زال سائق الباص يحاول بأي طريقة ممكنة أن يؤمن وقوده اليومي قبل قوته اليومي ليبقى مكان عمله صباحًا ليكمل التظاهرة طول النهار. وفي هذا الإطار من الحديث، يأتي فيلم "رصاص، بلا رصاص" ليضيء على هذه الأحداث المنسية في الملفات السياسية اللبنانية. يأتي هذا الفيلم لينقذ أرشيفًا ثقيلًا قادرًا على إسقاط أي نظام عربي لو أُضيء بطريقة مشعّة أكثر. لكن يبقى كل حرٍّ مقموع، ويبقى كل مُطالبٍ بحقوق مُطالب للسجون، وتُكمل الجمهورية مسيرتها بنشر الدكتاتورية المبطنة. ولكن تخطر على حبل أفكاري المشتت المسألة التالية: هل لو أُعطيَ هذا الفيلم فرصة للظهور للعلن كان ليؤثر بمن هربوا من ساحات الاعتصام الآن في بيروت؟ هل من أفلامٍ أخرى مخبئة كهذا الفيلم؟ هل لو جمعناها كلها في فيلمٍ واحد سيحصل التغيير؟ 

 

اقرأ/ي أيضًا:

مهرجان "كرامة - بيروت": سينما الإنسان وحقوقه

"روجير واترز- الجدار".. سيرة معجزة