18-أكتوبر-2016

(Getty) حلب تشرين الأول/ أكتوبر 2016

متى يقرر الإنسان أن يضع حدًا لأنفاسه، وأن يطلق في تلك اللحظة بالذات النار على رأسه، أو أن يتجرأ على خنق أنفاسه بأنشوطة على مهل، أو أن ينزع قميصه في زنزانته البعيدة ويشنق جسده الوحيد المتكور حول فكرة أن الحياة ليست صالحة أبدًا للتنفس بعمق.

اليوم، في رحلة الموت العادي، لا أحد يسأل عن السبب والكيف، لا موت نوعيًا وفريدًا

بعيداً عن الحلال والحرام؛ كثر من لم يترددوا في أن يكونوا جثثًا في لحظة باردة، تصالح الجسد مع توقف الشعور بالحياة فاتفقا على إيقاف تلك المهزلة التي تحتاج فيها إلى الكثير من العناء، لكي تستمر ماشيًا على قدمين متورمتين من التعب، وأصابع متعبة الأعصاب من ارتفاع السكر، وعلى رغبة قاسية بالركوب في الطائرة بدلًا من التنقل بباص محشور ببشر متعرقين، ومن الدوران حول عمل مقزز لا لعب فيه من أجل بعض الأوراق الملونة التي تجعلك عبدًا سعيدًا.

اقرأ/ي أيضًا: حلب.. من التتار إلى التتار الجدد

في المقابل هناك من أعدم جسده من الملل، ومن أنهاه بجرعة مخدرات زائدة، ومن مرض مباغت نتيجة البحث عن متع جديدة، ونساء تركن لأجسادهن حرية الترحال والطيران فصار فراشة أو حصانًا، وبعضهن غرقن في عنق زجاجة نبيذ فمتن بإحساس الخدر اللذيذ.

اليوم، في رحلة الموت العادي، لا أحد يسأل عن السبب والكيف، لا موت نوعي وفريد، وحتى أولئك الذين يرتدون أحزمة النار، أو السيارات المفخخة لا أحد يهمه أين ضاعت أسنانهم وأصابع أقدامهم، وبالكاد يمرون في الشريط الإخباري مع ضحاياهم، ومجرد أرقام ممزقة استحالوا جميعًا.

اليوم، في حلب الشرقية، ينتظر البشر موتهم تحت الأنقاض... هنا عجوز يهز بدعائه السماء في أن لا تخطئ الطائرة جسده المنهك من العمر، وامرأة فقدت أبناءها تنصب فخًا لرصاصة قناص كي تصيب صدرها المفعم بالأسى وشهوة اللحاق بالجثث المسافرة، وطفل يخرج مفجوعًا بنجاته، وطفلة تتلمس وجههًا المدمى الذي بقي مكانه بالصدفة.

في كل الأرض السورية ثمة من ينتحر بصمت، من يموت من انتظار الموت، ومن يخشى النجاة من رائحة الطاعون المنتشر في حواري القرى التي كانت مشوار فرح، ومن يضغط على حلقه حتى ينقطع النفس فينقذه صوت انفجار من بين يديه.

وبعد انتظار الموت يطلق خليل حاوي النار على رأسه بإصرار وترصد، طالما انتظر رأسه ليستريح من هواجس وفئران النفق المظلم اللامتناهي، رأسه الذي أتعبته الفكرة لتخرج دون دم، الفكرة دون صراخ.

بيروت 1982 لا مفر من طلقة فكرة، طلقة تنقذ النائمين في وهم انتصار الصامتين، طلقة لا تكترث بكل الكتب الكاذبة، والشعر الواهي عن الصحراء التي تلد القيم والفحولة، وهي لم تلد سوى أغاني الباحثين عن صداها.
"أَغمضتَ عينيكَ عَلى رَمَادْ
أَغمضتَ عينيكَ عَلى سَوَادْ".

اقرأ/ي أيضًا: حلب.. الشرقية تلتقي بالغربية

هي الفرجة البسيطة بين الرماد والسواد كفيلة بإنهاء قصة الحياة، هي الشجاعة التي تأتيك دون وعي، أو في ذروته لتطلق النار على رأس لا ينتج سوى النواح، واجترار الكلمات البليغة والمفاجئة، بينما الموت العادي يترصد الأبرياء فقط.. وأنت شريك الفكرة التي يجب أن تردى برصاصة واحدة.

شجاعًا كان أم يائسًا أنهى خليل حاوي أسطورة الجسد الجبان، والفكرة القانطة

شجاعًا كان أم يائسًا أنهى خليل حاوي أسطورة الجسد الجبان، والفكرة القانطة، والوقت الذي لا يمر سوى على الأحياء بطيئًا بلا معنى: "هذي العقارب لا تدور/ رباه كيف تمطّ أرجلها الدقائق/ كيف تجمَدُ/ تستحيلُ إلى عصور".

الآن... كيف لي... لكم... أن نطلق النار دون تردد على رؤوسنا المحشوة بكل هذا الموت

اقرأ/ي أيضًا:

يوميات الثورة في حلب

معركة حلب.. رهان حزب الله الأخير