19-يونيو-2018

بييرو غيلاردي/ إيطاليا

رغم أنّه وطأ أرض القصيدة المحكيّة من باب الشّكل الكلاسيكي، أو ما يُعرف في المشهد الجزائريِّ بالشّعر الملحون، إلا أنّ ما كتبه في بداياته كان يُعطي انطباعًا بأنه لا يلبث أن يُغادر هذا المعمار/ القاموس إلى معمارٍ وقاموسٍ مفتوحين على التّجريب والتّخريب الجماليين. فقد كانت قصيدته الملحونية شبيهةً بعارضة أزياء تعرض اللّباس التقليديَّ، ولكن وفق أسلوب عصري.

علاقة الطّفل بالتّكثيف تفرضها حاجتُه نفسُها إلى الأشياء، ورغبته المباشرة فيها، فهو يعبّر عنها بأقلّ التّكاليف اللّغوية

سرعان ما أكّد رشيد بلمومن (1974) هذا الانطباع في إصداره الأوّل "سيلفي"، دار الأوطان 2015، حيث جاورت النّصوص الكلاسيكيّة نصوصًا ذاتَ نَفَسٍ حداثيّ، فكأنّه أراد أن يدفن الأولى ويعلن عن الثّانية بالنّشر، ممّا أدخله إلى مقام الانتظار، حيث انتظر الزجّالون الحداثيون في الجزائر والمغرب تجلّياته الحداثية، وانتظر هو نفسُه نفسَه.

اقرأ/ي أيضًا: رشيد ولد المومن.. سيلفي اللحظة الجزائرية

في خريف عام 2017، عن دار "الجزائر تقرأ"، ضرب رشيد بلمومن ضربته في ديوان "بعض الشكّ قصيدة"، فكانت شبيهة بضربة جناح الفراشة، التي تواجه هيمنة اللون الواحد بتعدّد الألوان والاتجاه الواحد بتعدّد الاتجاهات والموسيقى الواحدة بتعدّد الألحان. ثمّ إنّ المراهنة على جناح الفراشة والإعلان عن الخيبة في جناح النّسر كانت، في حدّ ذاتها، انتهاكًا لأفق الاحتمال، وحلفًا جماليًا مع سلطة السّؤال.

يقول رشيد بلمومن: "فهمت أنّ ما كنت أكتبه قد يجيب عن أسئلة الجماعة، لكنّه يُبقي على أسئلتي الخاصّة عالقةً من عراقيبها. بما جعلني شبيهًا بسقّاء السّوق، الذي يسقي الجميع ويعجز عن إيصال الإناء إلى فمه. علمًا أن طوافه في السّوق من أجل الجماعة يُضاعف عطشه الخاص. وعلمًا أيضا ألّا أحد يُفكّر في أن يسقيه لأنّه حامل الماء"."من هنا"، يقول رشيد بلمومن: "قرّرت أن أطرح قربة القوم وأحفر الآبار التي في أعماقي. فأنا جئت إلى الحداثة في القصيدة المحكية من جهة إحساسي بالعطش".  

بعض الشك قصيدة

أولى تجلّيات هذه الحداثة كانت على مستوى معمار النصّ. فهو لا يتجاوز حجم كفّ طفل. ذلك أنّ علاقة الطّفل بالتّكثيف تفرضها حاجتُه نفسُها إلى الأشياء، ورغبته المباشرة فيها، فهو يعبّر عنها بأقلّ التّكاليف اللّغوية. يشرح: "قلت إنّني شرعت في حفر الآبار التي في أعماقي. وهو وضع يجعل صاحبه يخلع ألبسته، فلا يُبقي إلا على الدّاخلية منها. كيف نصل إلى الذّات من غير أن نتعرّى؟".

في مقابل ممارسة فعل التستّر، التي تجعلها القصيدة الكلاسيكية من ميزاتها إرضاء لعيون الجماعة، يقول بلمومن، تفرض علينا القصيدة الحديثة أن نتعرّى تفرّغًا لممارسة فعل الحفر. حيث تصبح الكتابة قرينة للعمق/ التّعميق. وهو مقام يجعلنا نُخرج التّراب النّاتج عن الحفر، فالهدف هو الماء الصّافي. وإنّ هذا الماء نفسه، حين نصل إليه بالحفر، ينقّينا من الغبار، الذي علق بنا في مسعى بحثنا عنه.

بضع كلمات في بضعة أسطر تكفي لأن يختزل كونًا. إنّها بَرَكة الشكّ في مواجهة اليقين. وحنظل السّؤال في مقابل عسل الإجابة الجاهزة. فالشكّ إعادةُ بناءٍ والسّؤال إعادةُ تسميةٍ، وما الشّعر إذا لم يبنِ ويُسَمِّ من جديد؟ لماذا نربط جمال القصيدة بطولها، بينما لا تتجاوز الأفعال العميقة فينا بضع ثوانٍ: القُبلة/ الدّمعة/ الآهة/ الشّتيمة/ الرّغبة/ العطسة/ الغمزة/ النّطفة. ألم يُثبت لنا تاريخ ردود الأفعال لدى الإنسان أنّه قد تنشب حرب عن قُبلةٍ أو غمزةٍ أو شتيمةٍ أو نطفة؟ إذن فالشّعر معنيّ بالفعل لا بردّة الفعل.

رشيد بلمومن: تفرض علينا القصيدة الحديثة أن نتعرّى تفرّغًا لممارسة فعل الحفر

اقرأ/ي أيضًا: أبواب جديدة للقصيدة المحكية في الجزائر

إلى غاية ظهور نصوص رشيد بلمومن المسبوقة بنصوص أخرى لأسماء أخرى، تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، ظلّ الاعتقاد السّائد أنّ اللّهجة الجزائرية لا تقدر على أن تطرق أبواب الحداثة. (هل للحداثة أبواب؟). ولم تزل إلى غاية اليوم، رغم أنّها نشرت على أكثر من صعيد، تتعرّض للتّتفيه والتّسفيه والتّشويه. وهو الثّالوث الذي ظلّ شغّالًا، منذ الأزل، في مواجهة الأصوات الجديدة.

 

شذرات مختارة

1

تْوضّات بْ لون بْيَضْ

فرْشت الظلمة

وسَلمتْ روحْها لْ بكية ضاوية.

 

2

نُكتة

جاتْها في صلاتها

تضحك الشّمعة

بالدّمعة.

 

3

شمعات متوانسين

كل وحدة تفكّر اختها فَ الشْهادة

عْمُر الشمعة

مثل عْمُر فراشة

وشْواشة موت الشمعة

ضاجّة بالضوْ.

 

4

وعدة

كانت نْواتها ل الرّيح

حلّتْ احْزامها

لا حدْ لامها

شطحت

شطحت

نشرت ضوها يْشيح

و صَلاّتْ عريانة

 

 

5

في ڤعدة

تفكرت طولها

العريان م الضو.

 

6

مْعلڤة

 عند بابْ السْما

حتى تقرايْها

 قْصيدتي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء

دليلة فخري.. الارتفاع بلغة الأرض