28-أغسطس-2020

من لوحات ماياكوفسكي

معروف لدينا أنه شاعر وكاتب وفنّان، وصلتنا أعماله الأدبية، بينما لم نحظَ بالكثير من أعماله الفنية. كتب قصائد جريئة، فكرية، وسريالية بارعة. شخصية غير عادية، مضيئة، برّاقة "صاخبة". لم يكن مثل أي شخص آخر من مواطني روسيا؛ فقد كان على دراية تامة بالمعنى الحقيقي لما يعنيه مصطلح "واجب مدني" تعامل معه بإخلاص وجدية ومسؤولية.

ما يعرف بسلسلة الزرافة، أو الزرافات، تنتمي أيضًا الى فترة دراسة ماياكوفسكي في المدرسة، وهي من الأعمال التي تعكس التغييرات في داخله

ماياكوفسكي غني عن التعريف، لكنّ ما يثير استغرابنا كقراء عرب، هو أنّ ما وصلنا منه، شعره ومسرحياته وحسب، بينما لم يصلنا أي شيء من فنه سوى ما قيل عنه: "كان فنانًا"، ولكن أين من كل هذا لوحاته الفنية ورسماته؟ هل شاهدنا رسوماته، عمن تحدثت وكيف كان يرسم؟

اقرأ/ي أيضًا: دموية الأخوين غريم والنزعة العضوية لدى جوزيف بويز

يكاد يخلو "غوغل باللغة العربية" من أي رسمة للوحة مصورة من أعماله الفنية. ظهرت موهبته في السابعة من عمره بعد أن انتقلت عائلته الى كوتاسكي، ودرس في صالة الألعاب الرياضية، هناك أخذ بعض الدروس في الفن. في خريف عام 1911، أعاد ماياكوفسكي الامتحان للمرة الثانية في مدرسة الرسم، بعد أن فشل في المرة الأولى عام 1910، إلا انه لم ينجح مرة أخرى، كان الوقت لم يسعفه في الاختبارين اللذين اشترطا لاجتيازهما تقديم عمل متكامل أثناء الامتحان، لم ييأس فأقدم على التسجيل في مدرسة موسكو للرسم والنحت والعمارة، فهوايته كانت تنتظره داخل تلك الأسوار، مدرسة موسكو، المكان الوحيد الذي استقبله دونما شهادة ثقة.

فنان موهوب غزير الموهبة وعميق الجمال

لم يكن شاعرًا هائلًا فحسب، بل فنانًا برع في فنه، وللأسف أن لوحاته ورسومه لا يعرفها الجميع. عندما وصل شرار الثورة الروسية إلى جورجيا، شارك في المسيرات لأول مرة وهو طفل، لم يبلغ الحلم، ذكرت أخته ليودميلا ماياكوفسكي: "إن نضال الجماهير الثوري قد أثّر بشكل واضح على فولوديا وأوليا أيضًا، فكان القوقاز يشهد ثورة خاصة، لقد شارك الجميع في النضال، وانقسموا إلى أولئك الذين شاركوا في الثورة، والذين تعاطفوا معها، وبالتأكيد إلى معاديين."

مرة أخرى ينتفض الشاب الروسي المتحمس ليكتب قصيدة ثورية مناهضة للنظام، فنشرت بعد ذلك بإحدى الصحف المدرسية ما قاده للسجن، ثم أطلق سراحه بكفالة وسلم لوالدته.

ألقي القبض عليه ثالثة، إثر مشاركته مع ايزدور مورتشادزي – اشتراكية دمقراطية- منظمة هروب النساء السياسيات السجينات من سجن نوفنيسكي، فانتهى به المطاف في سجن بوتريكا، وفي الحبس الانفرادي. مورتشادزي كانت واحدة من أولى أعماله الفنية، رسمها في سن 15 من عمره.

تتحدث شيخيل عن ماياكوفسكي في مذكراتها، التي التقته في مارس 1913، وهي ابنة مهندس معماري معروف، وكان شقيقها يدرس في مدرسة موسكو مع ماياكوفسكي: "منذ تلك الفترة قد حافظت على عدد من الرسوم القيمة للغاية لماياكوفسكي، كان معظمها مخصص للزرافات لسبب ما، رسمها في ألوان الباستيل الملونة، واضعًا اياها في ألبومي".

إذا ما شاهدنا "سلسلة الزرافة" لماياكوفسكي، سوف نسأل: لماذا أصبح مثل هذا الحيوان الغريب موضوعًا لصور الفنان الروسي الشاب؟

ما يعرف بسلسلة الزرافة، أو الزرافات، تنتمي أيضًا الى فترة دراسته في المدرسة، وهي من الأعمال الرسومية التي تعكس التغييرات في صورته ونفسه.

اقرأ/ي أيضًا: الرؤوس البشرية في الحرب.. بين الترميم والاستباحة

إذا ما شاهدنا "سلسلة الزرافة" من المؤكد سيقفز لأذهاننا سؤال: لماذا اختار حيوان الزرافة لرسمه بالذات؟ لماذا أصبح مثل هذا الحيوان الغريب موضوعًا لصور الفنان الروسي الشاب؟

تجيب شيختل: إن من أسبابه هو اهتمام الطليعيين للسنوات العشرة من القرن العشرين بالتكعيبية، وتأثره بأفريقيا والفن الأفريقي. يمكن تجزئة رسومات الزرافة الى ثلاث مجموعات: يوضح الأول اهتمامه بأفريقيا، وتضم المجموعة الثانية بطريقة أو بأخرى حقائق حياة ويوميات الفنان (زرافة في موعد مع طبيب الاسنان، زرافة عند الكوافير أو مصفف الشعر) وعن هذا تقول شيختل: إنه شعر ذات يوم بألم في أسنانه فرسم زرافة يصاحبها سن متهشم، أما الرسم الثاني فإن قصيدة: "إنهم لا يفهمون أي شيء، 1913"

يمكن ان تكون بمثابة تفسير لها: سرت للحلاق، همست له بهدوء: مشط أذني وكن لطيفًا معي، ذلك الحلاق الناعم، فجأة صار صنوبريًا، وتمدد وجهه كما لو كان الكمثرى".

واحتوت المجموعة الثالثة على بعض الرسومات من بينها صورته بطريقة كاريكاتورية ماياكوفسكي في ملاحقة الزرافة، وماياكوفسكي راكبًا الزرافة.

في الأعوام ما بين 1911 - 1915، ابتكر ماياكوفسكي العديد من الرسومات المضحكة والرسوم المتحركة والصور الاحترافية

من سلسلة الزرافة يتضح أنه لم يكن نجمًا في سماء الطليعية الروسية فحسب، إنما كان معلمًا. أثناء دراسته رسم الكثير من اللوحات لكن مصيرهم كان غير معروف، على الأقل كان ينبغي عليه تقديمها في الامتحان النهائي. بعد تخرجه من مدرسة موسكو، توقف عن الرسم، واقتصر عمله في مجال الفنون الجميلة على الدعاية الدعائية وملصقات "جروث" الثورية، ومع إعلان اندلاع الحرب العالمية الأولى بدأ في التعاون مع دار النشر لوبوك اليوم، التي نشرت سلسلة من الطباعة الحجرية الملونة تحكي عن أحداث آب/أغسطس-تشرين الأول/أكتوبر 1914، وتحت اسم مستعار، عمل مع ماليفيتش وبعض رفاقهم، فخلقوا الكثير من الطوابع السوفييتية، التي ظل الإعلام السوفييتي صامتًا عن حقيقة أن ماياكوفسكي بدأ في صنع الملصقات الأولى عام 1914، حتى أصبحت موضوعات رسومه وملصقاته وطوابعه "هتافًا وطنيًا" يهدف إلى السخرية من الجيش الألماني والنمساوي المجري.

اقرأ/ي أيضًا: شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني

في الأعوام ما بين 1911 - 1915، ابتكر العديد من الرسومات المضحكة والرسوم المتحركة والصور الاحترافية. خلال سنوات الحروب والثورات رسم الملصقات، وزودها بكتابات شعرية، أولاً لدار النشر "لوبوك اليوم" ثم لـ"ويندوز، نوافذ". بلغ عدد الرسومات التي رسمها الآلاف.

في الأيام الصعبة من الحرب الداخلية والخارجية التي مرت بها روسيا، وعندما تطلب الوقت نفسه أشكالًا دعائية جديدة من الفن التي يمكن أن ترفع روح الجماهير المعنوية للقتال، ولدت الأسطورة "ويندوز، النوافذ".

كانت الصحافة المصورة هي شكل التواصل مع الناس الذين احتاجهم، بحسب تعبيره: "الشارع هو فرشتنا، والمربع هو لوحتنا". ربط دور الشاعر والفنان في بناء مجتمع عادل اجتماعيًا بـ"دمقرطة الفن"، مع البحث عن أشكال جديدة جذابة للجماهير، فهو يعتقد: "لا ينبغي أن يتركز الفن في المتاحف، والمعابد، والمعارض الخاصة أو الشخصية، ولكن يجب أن يكون في كل مكان: في الشوارع، في الترام، في المصانع وورش العمل ومناطقه أيضًا".

استخدم في فنه أساليب الطباعة الشعبية، مما حرره من الطوابع. اعتمد في رسومه بعض التقنيات المختلفة: ألوان مائية، حبر، قلم رصاص، فحم، بينما في الأيام التي لم تكن لديه المواد الكافية للرسم؛ كان يبتكر الوسائل -وسائل مرتجلة- ففي الغالب من لوحاته كان يستخدم أعواد الثقاب المحروقة، وأعقاب السجائر المنقوعة بالحبر. مسار ماياكوفسكي الفنان هو ذاته مسار ماياكوفسكي الشاعر: صراعه مستمر ضد الأكاديمية، الملل والجمال البرجوازي، كان يبحث عن طريقة لإيجاد فن نشط وصادق وضروري، لمنفعة الناس.

الآن، بعد أعوام، لم تيبس قصائده ولم تجف لوحاته، ولم يكفا عن جذب انتباهنا من خلال سطوعهما وأصالتهما وحرفتهما المذهلة، وتلك هي العبقرية. صاحب "غيمة في سروال" تثيره مشاهد الحيوانات حتى رسم: الكلاب والحمير الوحشية والتماسيح، كما أن من هوايته المفضلة في الرسم، "رسوم ودية" لبعض معارفه وأصدقائه، مثل ربيين وتشوكوفسكي وغيرهم..

فنان وشاعر معًا، روحان بجسد واحد، روح رسامة وأخرى شاعرة، وهذا ما جعله يعكس المهام السياسية والاقتصادية والصحية والعسكرية في قصائده ورسومه معًا. ذات مرت كتب مقالًا بعنوان "أطلب الكلمات" كتب بعد عشر سنوات مرت على إنشاء "نوافذ" تذكر في مقاله كيف أن ثلة من الفنانين "خدمت الأمة الخمسين مليون يدويًا، وأن هذا لعمل كبير وضخم، الحملة التي كانت من أجل قطف الفطر؛ لسد الجوع ومحاربة رانجل والقمل والتيفوئيد".

ومن هذا المنطلق فقد يرى أن عمله في "ويندوز، نوافذ" عملًا سياسيًا وانسانيًا بذات الوقت؛ لذا استجاب سريعًا وبشكل معلن، للقرارات والمراسيم الأولى التي أصدرتها الحكومة السوفيتية آنذاك.

كان الشاعر والفنان ماياكوفسكي يعتقد أن شعره وملصقاته يجلبان فوائد حقيقية نافعة للناس

فيما يتعلق بالقضايا الصحية، ومن واجب وطني وانساني، واجب المثقف الذي كان يعتقده ويؤمن به والمسؤولية التي تقع على عاتقه إذا ما اشتدت مأساة الشعب، وإيمانه القوي بالواجب المدني دفعه للعمل بجدية وتفان، ففي إحدى ملصقاته يُظهر الإجراءات الرئيسية لمكافحة الوباء، وتراها بائنة على الملصق في الثلث السفلي من الشكل، رجل يسكب الماء بسخاء من دلو، فيما يقوم شخصان آخران بغسيل الملابس، وفي الخلف يظهر طبيب واقف ويحمل بعض الأدوية بيديه. فهذا الملصق إشارة للتدابير الاحترازية آنذاك حول إجراءات مكافحة التيفوس 28 كانون الثاني/يناير 1919، كذلك نرى أن اهتماماته بالجوانب الصحية تظهر جلية على ملصقاته في الحملة التي أطلقتها الحكومة لمواجهة الأوبئة، فقد سخّر اهتمامًا كبيرًا لهذا الجانب، يبدو أن اهتمامه متأتية من طفولته، ففي سنة 1906، حيث كان يبلغ من العمر 13 عامًا، أصيب والده بإصبعه بإبرة تدبيس الورق، مما أدى إلى تسمم دمه فوفاته، كان يخشى البكتيريا؛ مما جعله يحمل الصابون، ويأخذ حوضًا قابلًا للطي، وكولونيا لمسحها، ويراقب النظافة بعناية.. يعتقد أن شعره وملصقاته - بما يخص التثقيف الصحي ودعم الجيش وردم الجوع- يجلبان فوائد حقيقية نافعة للناس.

اقرأ/ي أيضًا: بيكاسو مظلّلًا بنسائه

استمرت وكالة "نوافذ او يندوز" في الاحتفاظ بأهميتها الهائلة، فقد ساهم ورفاقه، من خلالها بمساعدة إحدى المدن الروس التي اكتسحها الجوع- تقع المدينة على نهر الفولغا- فقد حشدوا مواطني المقاطعات "المنتجة" إلى متابعة تعليم الأطفال الجائعين والمرضى في تلك منطقة، فبذل لأجلها جهدًا جبارًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إسماعيل شموط.. يده هي التي ترى وقلبه هو الذي يرسم

النحات العراقي أحمد البحراني.. وسائد من البرونز