06-مايو-2019

قيس سلمان/ سوريا

  • هذه رسالة من رجل مبسوط وحزين جدًا يدخن الحشيش على السطح في منتصف ليل قاتم.

تتألقين أمام عيني كأقمار مضيئة بعيدة المنال، بينما أتامل وحيدًا أجرامك السماوية بذهول. إن تفاصيلك تضخمت حتى صارت بحجم الكوكب. أقول: عندي رغبة تدفعني إلى ابتلاع العالم، ذلك العالم غير القادر على احتوائي، وفي الوقت ذاته، أو في أحيان أخرى، أشعر أني ذبابة تحوم حول الغائط. أنا منفصم.

عندما كنت جانبي كان بمقدوري القيام بعمل ما، أن أصافح الناس وأجلس في المقاهي الحاشدة، أن أمارس الرياضة، وأن أتفوه بجمل مفهومة، أما الآن فلا شيء، لا شيء على الإطلاق، عدا الكتب والكتابة عنك ولك كبديل تعويضي، لكن هل بمقدوري القيام بذلك إلى ما لا نهاية! لمن أتحدث عن كل هذا ولست بجانبي؟ أشعر أني تغربت عن الواقع، أنني غريب ومن حولي غرباء، ويتملكني شعور بانحطاط شديد. أنا أشبه بجندي عجوز يعانق بارودته الصدئة دون جرأة على القتال. أنا جبان خائف.

إن أخطائي مخزية. أنا آثم بحقك، وآثم بحق كل من أحبني، لدي قدرة فائقة على إيذاء أحبائي. إن أعصابي متلفة وأعرف أن هذا أمر لا مفر منه، فيجب أن أدفع الضريبة. ما أتعسني يا حبيبتي، أشعر بالوحدة، بيأس مرير، وبثقة مفقودة بذاتي. أنا قشة تتقاذفها رياح عبثية بلا هوادة.

أحلام القبور تراودني باستمرار، أحلم بهاوية جبل مرتفع وقدماي تنزلقان دون إرادة مني. إن مصيري بات مجهولًا، أنا خائف، خائف من الموت دون أن أكمل ما بدأته معك. يجب أن أنهي روايتك قبل أن ألقى حتفي، وقبل أن يجرفني تيار الشر باتجاهه. إن أفكاري شيطانية، تغزوها الأبالسة، وإنني بحاجة أن تلوثي عقلي بالخير. إن قلبي أبيض كبياض العين، لكن..!

تعتريني رغبة في أن أعضك، أن أعض أي شيء أمامي، يداي وأصابعي، أن أكل لحمي، أن أنهش المخدة، أن أمزق الكتب، أن أقرض الخبز اليابس وحبات الزيتون، أن أحفر اسمك على الباب الخشبي بأنيابي وأظافري. أسناني تتملكها شراهة شديدة للقضم. أشتهي أن ألعق وجهك وأنفك، أن ألبس جواربك المميزة، وأن أجثو تحت قدميك. لقد تعبت من تقبيل صورك الإلكترونية على الهاتف، إنها بلا عطر، بلا مذاق، بلا نبض أو حياة. يا عمري، نيران الشوق ألهبت أحشائي كما يلهب الحر الشديد حناجر الصائمين في الصحارى.

تؤلمني ذاكرتي، فالماضي واضح عندي لا يضمحل. إنني أتمتع بذاكرة قوية تجعلني أسترجع كل الأمكنة والمسافات الطويلة التي سرنا بها. إنني قادر على إعادة رسم الطرق التي مشيناها في الليل الهادئ على الميناء واستحضارها ركنًا ركنًا وزاوية زاوية. إنني أعيش فيك، أعيش تحت جلدك، وتعيشين تحت جلدي، كاليقين الذي يختبئ تحت جلد الشك. أنا أؤمن بك.

إنني أعيش حالة من الشقاء. ثلاثة أشهر قضيتها في السرير داخل غرفتي، تصوري شقاء رجل قضى ثلاثة أشهر متتالية دون مبارحة سريره. لقد أصبحت عقبة أمام سعادتي، كما صرت عائقًا في وجه سعادتك. وحين أفكر بالهرب منك، أذهب إلى المكتبة، فأكتب عنك، وأقرأ وجهك في الكتب، أو أذهب إلى البار فأثمل من ذكرياتك حتى يصيبني دوار موجع. روحي تضج وتعاني وليس لدي سلاح، أي سلاح للتخلص منك، أنا فاقد للإرادة. إن الحياة تسيرني كما تريد، هل هذا هو القضاء والقدر؟! أتمنى الهرب من حياتي، من حياتي كلها، أتمنى الموت، فكل أحلامي فيك تبددت كما يتبدد دخان السيجارة والضباب والسحاب.

إن الإحساس بالوقت يسحقني، ولا سبيل لي إلى مقارعة الزمن وسحقه سوى بالكتابة، ولكنها هواية تغوص في الوهم والألم، إلا أنها تبقى أقل وطئة على نفسي من الفراغ. لم أعد أكترث، الجنة أم الجحيم سواء بسواء، الله أم ملائكة الشر سواء بسواء، الفضيلة أم الرذيلة سواء بسواء عندي. لا طوق نجاة ينقذني من زحمة الأفكار والخيال وعزلة الواقع، أنا متوحد.

في نخاعي الشوكي خيط مطاط مشدود إلى مركز الأرض، يكبر حينًا فيكبر معه جسدي حتى يلامس السماء وتصبح قدمي بحجم الكوكب، أدوس بحذائي على العالم وأديره برجلي كحجرة، وما هي إلا ثوان حتى يتقلص الخيط فيها فأصبح بحجم حشرة أو سوسة في جسد العالم. أنا تارة صحراء استوائية حارة وتارة أخرى جبل جليد. أنا أعاني من الفصام.

أنت الموسيقى التي أحب، الإيقاع والنغم واللحن والرنة، وإني مستعد لأهب أي شيء في الوجود مقابل تقبيل يديك، فليس هناك جزء في جسدي لا يصرخ باسمك. أقول: إني أعبدك. دونك حياتي يملؤها المكر والحيل والخداع، وإنك الوحيدة التي تمنحني الاستقامة والنزاهة. لكننا وللأسف روح واحدة معذبة في عالمين لن يلتقيا أبدًا.

حبيبتي، السيجارة سقطت ثلاث مرات من المنفضة وكادت أن تلتهمني مع الغرفة ولم أشعر بشيء. لقد فقدت الإحساس بما حولي. أنا مجزرة تناقضات اجتمعت في قالب واحد كالقوالب التي تصنع منها الأحذية. أنا مريض، مريض بالوهم، رئتي تئن من الحشيش، حتى الحشيش يأخذني إليك!

خائف دومًا، أمشي في نومي وأحلم بسواد مفزع وأغطية بيضاء، حشود من المشيعين تنشد بصوت واحد صيحات مذعورة، رتل من الأقدام تتقدم صوب التلة بخطى مرصوصة وأصوات متلازمة كئيبة في فجر أحمر. حفر حفر ثم حفر أخرى مستطيلة ولوحات من الرخام، أشواك مترامية وزهور برائحة القلق، تواريخ مختلفة واسم واحد يشبهني، قلوب تخفق بشدة وأنفاس تخر متعبة. حلقي ناشف بفعل الكوابيس.

إن حبي لك لم يتخذ مجراه الطبيعي، لقد سار نحو الدمار، فأجدني الآن غارقًا في الآثام وكثرة العلاقات العابرة، لكأنني أصبح عاشقًا دونجوانيًا هوايته التضليل والتعمية. إن حبي لك لم يولد طبيعيًا وسهلًا لذا أجده الأن وقد صار شاذًا ملتويًا ومعقدًا. إن سيرة حبي لك بالرغم من التضحيات والقرابين وخوارق الأعمال والبطولات التي قمت بها أجده صعب المنال، يستحيل تحقيق أهدافه، ربما لأنها لا تتوافق مع خطوط الحياة المرسومة. حبيبتي، إن حبنا إستحال إلى فانتازيا بعيدة التحقيق، وذلك أعتبره إنكارًا لحقي في الحياة. لهذا السبب ترينني مللت العيش وبت أطلب الفناء، أو على الأقل، بت أحن إليك أيها الموت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تقوّس

خادمة الطبيعة