25-سبتمبر-2018

الإسكندرية (Pauline Roche)

كالبحر لا أنجو من خواطري، تحبسني وأعتقها. و تعود تجلس عند قدمي ككلب وفيّ. أكون ممتنة حتى أكتبها، فتغادرني إليك. قرأت اليوم خبرًا عن أنهم سيعلقون في أروقة فصول الروضة صور الشهداء بدلا من الألوان و الزينة والشخصيات الكرتونية. نحن جديرون بخرق نظام الكوكب. سيشرب الطفل كوب لبنه الصباحي مع تلك الصور، ستعلق في رأسه أشياء كثيرة عن عالم لا يعرفه. الخبر يخطف قلبي و يزعجني. هل يرونها حقا فكرة جيدة؟ في طريق العودة إلى البيت مررت على طريق كنيسة الشهداء، كانت الكنيسة تسمى كنيسة الشهداء قبل أن يقع التفجير فيها عام 2011، أصبحت تسمى كنيسة الشهداء بعد التفجير أيضا. هناك استشهدت ماريان، صديقة أختي. لا تذكر أختي هذه الحادثة أبداً، ولا تقول ماريان (رحمها الله) أبدا، بل ماريان فقط. تتعامل على أن غيابها عادي، وأنها لم تمت، وأنها فقط لم تزرها، أختي تخشى الاعتراف بمصرع ماريان البشع. الشارع مغلق من وقتها، لا تدخله سيارات أبدا. الكنيسة أمام الجامع، قبل الحادث كانوا يصممون مئذنة أعلى، وفي المقابل كان حامل الجرس أعلى. بعد الحادث هدأ كل شيء، على رصيف الجامع قبل الحادث كان الباعة الجائلون يبيعون المصاحف و المسبحات و كتب الفقه المختصرة الرخيصة. و على الجهة المقابلة، كانت سيدة تصنع من جريد النخل تيجان ورايات خضراء، بعد التفجير انتشرت جدران أسمنتية بطول الشارع حول الكنيسة، ومُنع الباعة الجائلون من الاستقرار بالمكان وحل محلهم جوقة رابضة ليل نهار، من العساكر والضباط لا ترحل من مكانها أبدا، ويتكثف وجودها في الأعياد. صورة ماريان ضمن صور الشهداء الكبيرة المعلقة هناك على أبواب الكنيسة. أختي تتجنب الصور والشارع والذكرى، وتحتفظ بهدايا ماريان.

اليوم أول يوم من أيام الدراسة ،مررت على مدرستي القديمة، التي تقع في طريقي لبيت أهلي في الاسكندرية .كنت أذهب إليها أنا وكثير من أبناء الحي. كان الطلبة يكرهون ناظرة المدرسة ويقولون أنها "رقاصة"، لم أكن قد رأيتها بعد، قلت ببالي هل هي جميلة كتحية كاريوكا؟ هل هي فارعة الطول مرنة كسامية جمال؟ هل هي في خفة كيتي؟ حين رأيتها وجدت امرأة عادية جدا، ترتدي زياً محتشًما وكثيرًا من المجوهرات الثقيلة، وزينة مبهرجة تخلو من فن، وبونيه للشعر، موضة التسعينات في مصر لغطاء الرأس. لم تكن راقصة، لكن ربما كانت في عهد مضى!

العلم غائب، اهترأ تماما وربما استخدمته الدادات في المدرسة كأداة للإمساك بأباريق الشاي الساخنة، أو لتنظيف الأسطح، القماش غاب لونه. الأولاد في الساحة يحيون العامود، يتخيلون علماً حُراً يرفرف في السماء، ويتخيلون أن الهواء يراقصه، يتخيلون أن جرس الفسحة ضرب، وأن الشطيرة الوحيدة في جعبة الواحد منهم سيأكلها أخيراً، أو أنه سيعود إلى منزله أخيراً، أو أنه أنهى فروضه أخيراً، أو أن لعبتهم مع الحياة لن تضيع أمام العمود الصدىء ،و أنهم سيخرجون ليشتروا الحلوى الرخيصة ،و يخيلون أن آبائهم لن يموتوا في سبيلهم كل يوم. و أنهم سيشبعون دون أن يضطروا لترك نصيبهم من الطعام لمن يليهم من إخوتهم الجائعين. وأنه سيكون لكل أسئلتهم إجابات مقنعة، و سيكون كل الثمر في الأشجار مشاعاً لهم ،و أن الحياة لن تخذلهم كما خذلت من سبقهم،و أن الأحلام ممكنة،وأن الليل ليس قاسيًا و أن غدًا أفضل.

يا عين.. نحن نجمل الحياة، نضع لها مساحيق نضارة ومواد مثيرة للبهجة، ونخفي هالاتها السوداء التي ندور فيها و تبتلعنا، نسخر من شكلها الفوضوي في النهاية، نسخر من وحدتنا فيها، من معاركنا الطويلة التي لا بلا هُدن، نراقصها و نتحمل سوء خطواتها ودعسها على أرجلنا أحيانا، نجاريها في مزحاتها السمجة، نحاول أن نجعلها تبدو أجمل.. هل سنفعل؟ هل يمكننا أن نقوم بذلك؟

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أمومة ماء وشعير 

سائق لعين ونصّ كاذب