رحيل نجم وإرث باقٍ.. نور الشريف و30 عامًا من الإبداع التلفزيوني
11 أغسطس 2025
لم يكن الموسم الرمضاني في مصر ممتعًا بدون ظهور نور الشريف على الشاشة، إذ إن حضوره المميز يعطي للموسم قيمته؛ وبدونه فقدت الدراما المصرية عمودًا هامًا ارتكزت عليه لسنوات.
تمر الذكرى العاشرة لرحيل الممثل المثقف نور الشريف (11 آب/أغسطس 2015)، والذي منح الدراما المصرية طعمًا وروحًا مختلفين، إذ شارك في أكثر من 30 مسلسلًا تلفزيونيًا، أبدع خلالها في أداء الشخصيات التاريخية والاجتماعية القريبة من روح الشارع المصري.
مطلع كانون الثاني/يناير عام 1977، خلت طرقات القاهرة من المارة، إذ تحلّقوا حول شاشات التلفزيون لمشاهدة مسلسل "مارد الجبل"، وكان العمل نجاحًا محققًا لنور الشريف الذي تعاون مع أستاذه المخرج نور الدمرداش، حيث يقول في إحدى حواراته التلفزيونية: "المسلسل كان بالنسبة لي رد شرف، لأنه سقطني في إحدى أعوام الدراسة، دلوقتي اسمي بيقترن باسمه"، فيما لمعت عينا نور وهو يقول: "تتر النهاية كان مكتوب عليه: إلى اللقاء مع نور الشريف ونور الدمرداش".
تخرج نور الشريف من المعهد العالي للفنون المسرحية، ولم ينسَ أن أستاذه نور الدمرداش كان قد جعله يرسب في إحدى السنوات الدراسية، وكان نور معروفًا بالتقديرات المرتفعة، وقد تخرج من المعهد بتقدير امتياز.
شارك في أكثر من 30 مسلسلًا تلفزيونيًا، أبدع خلالها في أداء الشخصيات التاريخية والاجتماعية القريبة من روح الشارع المصري
ربما يعد نور الشريف واحدًا من بين قليلين نجحوا في عالم السينما والدراما معًا، وهو أمر لا يقوم به كثيرون. كانت المشاركة الأولى لنور في عالم الدراما، بأداء دور في مسلسل "الأشياء النفيسة" عام 1964، لكن انطلاقته الحقيقية جاءت في مسلسل "القاهرة والناس" للمخرج محمد فاضل، عام 1967.
خلال فترة الستينيات والسبعينيات، أعطى نور الشريف أغلب اهتمامه للسينما، وقام بالعديد من الأدوار، ولم يشارك كثيرًا في المسلسلات التلفزيونية، حتى جاءت فترة التسعينيات، ومع تراجع دور السينما في مصر وقلة عدد الأفلام المنتجة سنويًا، انشغل نور الشريف بالدراما، وشارك في عدد من المسلسلات المميزة، التي شغلت أذهان المصريين، وربما العرب، حتى الآن.
كانت البداية عام 1993 مع مسلسل "الثعلب"، وهو من ملف المخابرات المصرية، ثم بدأت فترته المميزة في العام التالي بأداء الأدوار التاريخية مع تجسيد شخصية عمر بن عبد العزيز، وقد حاول نور مرارًا إنتاج فيلم عن الشخصية الدينية، لكنه لم يجد جهة لإنتاجه، بحسب حديثه في إحدى اللقاءات التلفزيونية.
وحينما فشل في إيجاد جهة لإنتاج العمل، مارس ضغوطًا على التلفزيون المصري لإنتاج مسلسل عنه، حسبما ذكر في إحدى الحوارات التلفزيونية. في ذلك الوقت رأى نور أنه من المهم أداء دور شخصية متسامحة ومعروفة بالعدالة الاجتماعية مثل عمر بن عبد العزيز الملقب بخامس الخلفاء الراشدين: "قمت بأداء الدور في وقت كان الإسلام يتعرض لحملة شرسة من أوروبا، ويربطه بالإرهاب".
بعد عمر بن عبد العزيز، عُرض على نور الشريف أداء شخصية الخليفة هارون الرشيد، لكنه تخوّف من خلط المشاهدين بين الدورين، وانتظر نحو عام قبل أداء ذلك الدور، ورغم توقيعه العقود إلا أنه تراجع مرة ثانية خوفًا من عدم استعداده الجيد له، وقد ذكر ذلك في حوار بجريدة الدستور عام 1997، لكن المخرج أحمد توفيق أصر على أداءه الدور، وبالفعل قدّمه نور كأحسن ما يكون بعد قراءته العديد من المراجع التاريخية.
كان المميز في مسلسل هارون الرشيد، أنه لم يقدم الخليفة العباسي بالنظرة السلبية المأخوذة عنه؛ بمعنى أنه متعدد العلاقات النسائية، وهو ما استنكره نور في إحدى حواراته التلفزيونية بقوله: "كيف يمكن حدوث ذلك؟ في الوقت الذي عرف عن عصره أنه فترة ازدهار!".
بعد الأدوار التاريخية، قام نور الشريف بأداء شخصية شهدت نجاحًا كبيرًا، لا زالت حتى الآن. فقد شهد عام 1996 ظهور شخصية عبد الغفور البرعي في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، المأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس، وسيناريو وحوار مصطفى محرم.
في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، قدّم نور شخصية الرجل العصامي الذي كافح حتى أصبح رجلًا غنيًا، رأى نور في تلك الشخصية صياغة جديدة لنموذج الرجل الأُمي التي اشتهرت بها الدراما المصرية، كما يذكر في إحدى لقاءاته التلفزيونية "دايمًا كُتاب الدراما كانوا بيطلعوا الناس تتريق على الرجل الأُمي"، لكن عبد الغفور البرعي كان رجلًا ذكيًا، صحيح أنه لا يقرأ ولا يكتب، لكنه لم يكن جاهلًا، بل على العكس، ربما مثقفًا أكثر ممن تعلموا".
كما رأى نور أن تلك الشخصية ربما تصلح لأن تكون اعتذارًا عن أفلام شارك فيها قبل ذلك تنتقد ظاهرة الانفتاح في سبعينيات القرن الماضي: "شاركنا في أعمال أحبطت الشباب، وإن الشخص الناجح هو الحرامي فقط"، وأضاف قائلًا: "لم يكن هدفنا أن نسبب إحباط للمصريين، بل لتعرية أخطاء الواقع"، لذلك كان عبد الغفور البرعي اعتذارًا، إذ أن الشخصية هي لقصة نجاح فقير وأصبح ثريًا، وكان رجلًا شريفًا في الوقت نفسه.
قدّم نور شخصية الرجل العصامي الذي كافح حتى أصبح رجلًا غنيًا، رأى نور في تلك الشخصية صياغة جديدة لنموذج الرجل الأُمي التي اشتهرت بها الدراما المصرية
كانت شخصية عبد الغفور البرعي متفردة بالفعل، ليس فقط لكونه رجلًا عصاميًا وشريفًا، بل أيضًا لكونه مستمعًا جيدًا لبناته، ولم يجبرهن على شيء، حيث قال عنه نور في لقاء تلفزيوني: "قدم نموذجًا جيدًا لشخصية الأب، وبتقول للناس إن العنف في البيوت مش هو الحل".
كان عبد الغفور محبًا لزوجته فاطمة كشري، التي قدمت دورها ببراعة شديدة الممثلة عبلة كامل، وقدم الثنائي نموذجًا مثاليًا لعلاقة الرجل بزوجته: "كان نموذجًا حقيقيًا مش متزوق سواء في مكياج البطل أو في مفردات الحوار بينهم". لم يُقدّم ذلك النموذج من قبل في الدراما المصرية: "يُحسب لعبد الغفور إنه متجوزش على مراته لما أصبح غني، مع إنها آفة في الوطن العربي".
حقق مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" شهرة كبيرة، ليس فقط في مصر، لكن في الوطن العربي أجمع. الغريب أن نور كان سيعتذر أيضًا عن أداء تلك الشخصية في بادئ الأمر، تخوفًا من كونه مشابهًا لفيلم "الفتوة" والذي يحكي قصة رجل يبحث عن فرصة عمل في سوق الخضار ويرتقي في السلم الاجتماعي بعد ذلك. لم يقرأ نور وقتها سوى المعالجة: "لكن مصطفى محرم قالي استنى لما تتكتب للحلقات"، وبالفعل بعد قراءته لعشر حلقات وجده مختلفًا عن الفيلم الذي قام بأداء دور البطولة فيه فريد شوقي إلى جانب زكي رستم.
أُنتج مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" عام 1996، بعدها بعام عاد نور ثانية لأداء دور الشخصيات التاريخية بدور هارون الرشيد، وفي العام الذي يليه أدى نور دور عاشور الناجي من ملحمة "الحرافيش" التي ألفها نجيب محفوظ، وكان من المفترض أن يكون هناك جزءًا آخر، لكنه لم يظهر للنور، بعدها قام نور الشريف بمسلسل "الرجل الآخر" عام 1999، وكان بعيدًا كل البعد عن أدواره السابقة، إذ جسد دور رجل فاقد الذاكرة، وهو دور لم يكن بتلك السهولة: "وسبب لي اكتئاب".
لم يكن دور عبد الغفور البرعي هو الدور الوحيد الراسخ في أذهان المصريين والعرب، بل نجح نور الشريف في أداء دور آخر حاز على شهرة واسعة، وهو الحاج متولي، في مسلسل "عائلة الحاج متولي"، وهو رجل تزوج أربع مرات، وهو عمل مغاير تمامًا لشخصية عبد الغفور البرعي، صحيح أنهما يشتركان في أنهما رجلان عصاميان، لكن عبد الغفور اكتفى بامرأة واحدة، بينما تزوج الحاج متولي أربع مرات.
البعض انتقد نور بأداء دور الحاج متولي، وأنه يشجع الرجال على تعدد الزوجات، إلا أن نور ظهر في عدد من اللقاءات رافضًا هذا الرأي، واعتبر أن شخصية الحاج متولي شخصية "خيال علمي". كما تساءل في ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2003 "هل يوجد رجل يقبل العيش مع أربع سيدات؟"، واعتبر أن رد الفعل المهاجم من منظمات حقوقية نسوية أعطى المسلسل قوة وتأثير.
نجح نور الشريف في أداء دور آخر حاز على شهرة واسعة، وهو الحاج متولي، في مسلسل "عائلة الحاج متولي"، وهو رجل تزوج أربع مرات، وهو عمل مغاير تمامًا لشخصية عبد الغفور البرعي
في عام 2002، أي بعد سنة واحدة من مسلسل "عائلة الحاج متولي"، قام نور الشريف بأداء دور الحاج صالح، في مسلسل "العطار والسبع بنات"، وهو دور مشابه بعض الشيء للحاج متولي، إذ أنه رجل تزوج سيدتين وأنجب سبع بنات، إلا أن نور وجده دورًا مختلفًا. ونشرت جريدة السفير خبرًا بتاريخ 10 شباط/فبراير 2002 مفاده أن العمل يتضمن اعتذارًا للمرأة العربية كنوع من التعويض عن مسلسل الحاج متولي، إذ يعلي العمل من قيمة إنجاب الإناث.
لم يلقَ المسلسل نفس النجاح الذي حققه "عائلة الحاج متولي"، وفي ندوة أقيمت بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2005، ذكر نور الشريف إن فشل المسلسل كان بسبب رغبة المشاهدين في رؤية الحاج متولي على الشاشة مرة ثانية، بينما ظهر إخلاص الحاج صالح وحبه لزوجته، فصُدم المشاهدون.
الدراما بالنسبة لنور لم تكن بسيطة، بل قريبة من الناس ومعبرة عن مشاكلهم، كما كانت مثيرة للجدل في بعض الأحيان، وتحتك بالسلطة الدينية والسياسية. في عام 2003 أدى نور شخصية عمرو بن العاص في مسلسل "رجل الأقدار"، إذ قرر نور مع الكاتب سامي غنيم عدم التعرض لقضية التحكيم بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري خلال معركة صفين، بعد عرضه على الرقابة والتي نصحتهم بعدم التحدث عن تلك القضية.
اعترف نور في أحد لقاءاته التلفزيونية أنه اضطر لذلك، خاصة حينما يكون المناخ العام رافضًا للحديث عن أمور دينية حساسة: "لأنه لو قام بيها هيفتح باب جهنم عليه"، كما اعترف أن المسلسل نقصه الكثير من الصحة التاريخية، ولم يحقق شهرة مثل مسلسليه التاريخيين السابقين.
الدراما بالنسبة لنور لم تكن بسيطة، بل قريبة من الناس ومعبرة عن مشاكلهم، كما كانت مثيرة للجدل في بعض الأحيان، وتحتك بالسلطة الدينية والسياسية
خلال الألفية الثالثة، قام نور الشريف بالمشاركة في مسلسلات مميزة مثل "حضرة المتهم أبي" و"الدالي" و"الرحايا"، واختلفت الثلاثة أعمال عن بعضهم اختلافًا كبيرًا، بل وحققوا نجاحات كبيرة. انتقد "الدالي" نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك، قبل ثورة يناير بثلاثة أعوام، عن طريق قصة رجل أعمال فاسد يتم التشكيك في مصادر ثروته.
الاحتكاك بالسلطة السياسية جاء أيضًا في مسلسل "ماتخافوش" عام 2009، الذي يحكي عن إعلامي مقدم برنامج باسم "ماتخافوش"، ويتطرق لمشاكل تواجه المجتمع العربي والمصري، كما يناقش الصراع الأزلي بين العرب والصهاينة، ومُنع المسلسل من العرض على القناة الأولى- وهي القناة الرسمية في مصر- لكن بجانب انتقاده النظام، لم يحقق المسلسل أية شهرة تُذكر، خاصة أنه افتقد للجودة الفنية التي عُرفت عن نور في أعماله الدرامية.
وقبل وفاته بنحو عامين، ظل نور مشاركًا في الأعمال الدرامية، إذ قام ببطولة بمسلسل "عرفة البحر" و"خلف الله".
أما الشخصية التي كرر كثيرًا استعداده الشجاع لأدائها، وحلمه الأبدي؛ هو أداء دور شخصية الحسين، التي حاول مرارًا القيام بها مع المخرج جلال الشرقاوي. وذلك لإنتاج عمل مأخوذ من رواية "الحسين شهيدًا" للكاتب عبد الرحمن الشرقاوي. وظل هذا الدور هو الحلم لدى نور حتى أنه قال في إحدى اللقاءات: "يارب يسمحولي وأعتزل بعدها، هقوم بالإخراج بس".