14-أبريل-2025
الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا

(Getty) الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا

كان يعرف أن الأدب لا يغيّر العالم، لكنه يمنحه توازنًا أخلاقيًا ضد العبث. عاش الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا (1936 - 2025) يطارد يوتوبيا خاصة به، واكتشف في الكتابة شكلها الوحيد الممكن. لم يكن مجرد روائي، بل كان عقلًا يشتبك مع السلطة، ويعيد تركيب التاريخ بخيال متوقد.

رحل أمس الكاتب البيروفي الكبير، تاركًا خلفه واحدة من أغنى التجارب السردية في أميركا اللاتينية، وأكثرها التباسًا بين المجد الأدبي والمواقف السياسية المثيرة للجدل.

وقالت عائلته: "ببالغ الحزن، نعلن أن والدنا، ماريو بارغاس يوسا، قد توفي اليوم في ليما، محاطًا بعائلته وبسلام"، وأضافت، في بيان نُشر على منصة "إكس"، أن رحيله: "سيسبب الحزن لأقاربه وأصدقائه وقرّائه حول العالم، لكننا نأمل أن يجدوا العزاء، كما وجدناه نحن، في حقيقة أنه عاش حياة طويلة، ومتعددة الجوانب، ومثمرة، وترك خلفه إرثًا أدبيًا سيبقى حيًا بعده".

وأشارت العائلة إلى أنها ستلتزم بوصيته بعدم إقامة أي مراسم عامة، مؤكدةً أن رفاته سُتحرق. كما دعت إلى احترام خصوصيتهم لتوديع يوسا في أجواء عائلية، وبحضور الأصدقاء المقربين فقط.

اشتُهر يوسا بوصفه أحد أركان "الطفرة الأدبية" في أميركا اللاتينية إلى جانب كل من غابرييل غارسيا ماركيز، وخوليو كورتاثر، وكارلوس فوينتس، وغيرهم

يطوي يوسا بوفاته، عن عمر ناهز 89 عامًا، صفحة حياة لا تقل إثارةً عن أعماله الروائية سعى خلالها إلى الوصول إلى رئاسة البيرو، واشتُهر بعداوته مع الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ونال جائزة نوبل للآداب عام 2010. كما اتهم بالتهرب الضريبي، إذ كشف تحقيق صحفي استقصائي عن امتلاكه شركة "أوفشور" مسجّلة في جزر العذراء البريطانية، التي تعد من أشهر الملاذات الضريبية في العالم، سنة 2015.

ولد يوسا في مدينة أريكيبا، أقصى جنوب غرب بيرو، في 28 آذار/مارس عام 1936. بدأ حياته المهنية صحافيًا متخصصًا في تغطية الجرائم في الخامسة عشرة من عمره، ثم سافر إلى باريس عام 1958، حيث تنقّل بينها وبين مدريد وبرشلونة ولندن لمدة 16 عامًا، عمل خلالها في الصحافة والإذاعة والتعليم، وذلك إلى جانب نشاطه الأدبي.

نشر يوسا روايته الأولى "زمن البطل" عام 1963 في إسبانيا، وتناول فيها قصة قتل تقع في أكاديمية ليونثيو برادو العسكرية، وما تبعها من محاولات التستر عليها. وقد أثارت الرواية جدلًا كبيرًا في بلاده، بلغ حدّ إحراق عدد كبير من نسخها.

اشتُهر يوسا بوصفه أحد أركان "الطفرة الأدبية" في أميركا اللاتينية إلى جانب كل من غابرييل غارسيا ماركيز، وخوليو كورتاثر، وكارلوس فوينتس، وغيرهم. وقدّم خلال مسيرته الأدبية أكثر من 20 رواية، تناول فيها قضايا السلطة والفساد والعنف والهوية وصراع الفرد مع المجتمع.

ومن أشهر رواياته: "البيت الأخضر" (1966) التي تناول فيها العلاقة بين الريف والمدينة، والسلطة والدين، والدعارة والمجتمع. و"حديث في الكاتدرائية" (1969) التي استعرض فيها الفساد في بيرو خلال حقبة الجنرال أودريا للبلاد.

بالإضافة إلى رواية "حرب نهاية العالم" (1981) التي تُعد عملًا روائيًا ملحميًا بامتياز، وتدور أحداثها في البرازيل أواخر القرن الـ19. و"حفلة التيس" (2000) التي تُعد أشهر رواياته، والتي خصصها لتناول لدكتاتورية رافاييل تروخيو في الدومينيكان.

ابتكار سردي لا يهدأ

يوسا روائي مبتكر. هذا ما تلحظه في أغلب رواياته التي يمزج فيها بين البُعد الاجتماعي مع التاريخ والعناصر الوثائقية. ففي "حلم السلتي"، التي تتحدث عن استعمار الكونغو، نجد خلطة روائية واسعة تضم عناصر مختلفة تصب جميعها، في نهاية المطاف، في تشكيل واقع إنساني محدد لكن بنظرة روائية شديدة التفرد.

نرى ذلك أيضًا في روايته "حفلة التيس". فبينما تركّز الرواية على جمهورية الدومينيكان، إلا أنها ترسم في الوقت نفسه ملامح استثنائية شديدة الأهمية للدكتاتوريات التي شهدتها أميركا الجنوبية، والتي قادها مجموعة من الطغاة المدعومين من الولايات المتحدة، والذين تشاركوا الممارسات الاستبدادية نفسها. "حفلة التيس"، التي كتبها يوسا في مرحلة متقدمة من حياته تعتمد على تلك الخلطة السحرية بين السياسة والتوثيق، والبُعد الإنساني والخيالي، وهي بمثابة "درة التاج" في هذا الاتجاه الروائي، إذ شهدت القارة الأميركية الجنوبية تيارًا عرف بـ"أدب الدكتاتور".

إلى جانب ما سبق، هناك أيضًا ما يميز يوسا في كتابته الروائية، وهو أنه لا يركن إلى أسلوب محدد، وإنما ينزع دائمًا نحو التجديد في الأسلوب والمضمون كذلك. ففي رواية "حفلة التيس"، يقوم بإنشاء ثلاثة خطوط متوازية: خط أورانيا الفتاة العائدة إلى بلدها بعد سقوط الدكتاتورية، وخط المجموعة التي تخطط لاغتيال الدكتاتور، والخط الثالث الذي يرصد الفترة الأخيرة من حياة الدكتاتور تروخيو.

أما المثال الآخر، فهو رواية "الفردوس على الناصية الأخرى". في هذه الرواية، ننتقل بين فصلين مختلفين؛ فصل عن فلورا وفصل عن غوغان، وكل فصل له طابعه الخاص. فبينما يبدو فصل فلورا عقلاني سياسي، يأتي فصل غوغان عاطفيًا حارًا. ويمكن إعادة ذلك إلى فكرة أن الأساس هنا أن العملية أشبه بالمونتاج السينمائي.

 ثمة وجه آخر ليوسا لا يقل سحرًا عن وجهه الروائي المعروف، وهو دوره كمقاليّ رفيع. لم يكن فقط من رواد "إل باييس" الإسبانية وغيرها من المنابر الكبرى، بل كان أشبه بمن يُجري فحصًا بالرنين المغناطيسي للنصوص الأدبية في تلك المقالات، فهو قرأ بورخيس كأنما يعيد تشغيل دماغه، وكتب عن روايات العالم كما لو أنه يفتحها من الداخل، قطعة قطعة، ويعيد تركيبها برؤية حادة ولمسة شاعر. والأطرف من كل ذلك أنه كتب للمسرح، وذات مرة لم يكتفِ بالكتابة بل صعد الخشبة ولعب دور البطولة في إحدى مسرحياته! كأنما لم تسعه الحياة ككاتب، فأراد أن يعيش الجانب الآخر منها وأن يصبح شخصية خيالية من شخصيات نصوصه.

يبقى أن نشير إلى أن حصول يوسا على جائزة نوبل للآداب عام 2010 جاء متأخرًا، بعد مسيرة أدبية استثنائية امتدت لعقود. وكان كثيرون يظنون أن نوبل قد اكتفت بما منحته لأدب لأميركا الجنوبية حين كرّمت غابرييل غارسيا ماركيز، لكن تكريم يوسا أعاد تسليط الضوء على عظمة أدب أميركا الجنوبية، وذكّر العالم بأن قارة بأكملها لا تزال تكتب بخيال ملتهب وحرارة إنسانية لا تنطفئ. لقد أعادت نوبل مع يوسا الاعتبار لقيم هذا الأدب القائم على المخيلة، والاشتباك العميق مع مصائر الشعوب.