19-يونيو-2020

كارلوس زافون (1964 - 2020)

انطفأ كارلوس زافون. الروائي الإسبانيّ المولود في مدينة برشلونة عام 1964. غادرنا اليوم، 19 حزيران/ يونيو، بعد صراعه مع السرطان، تاركًا خلفه أعمالًا قادرة على حفظ أثره وتكريس حضوره في المشهد الأدبيّ الإسبانيّ والعالميّ لسنوات طويلة، سيتذكّره قرّائه فيها متجوّلًا في"مقبرة الكتب المنسية"، رباعيته الروائية الشهيرة التي قدّمته حكّاءً يملك من الحرفة ما مكّنه من تقليب تربة التاريخ ببراعة في ظلّ انشغاله بتفاصيل أخرى عديدة داخل العمل الواحد، واستثمار المرجعيات الأدبية المختلفة بشكلٍ يجعل من نصّه جيل جليد تدعمهُ التفاصيل والمواد غير المرئية، وفق تعبير الروائيّ الأمريكيّ إرنست همنغواي.

لا ينكر كارلوس زافون أنّ أجواء مقبرة الكتب المنسية مرتبطة بالقرّاء والكتابة والكتاب وبائعي الكتب والناشرين

داخل هذه المساحة التي شيّدها كارلوس زافون لنفسه كروائيّ على مدار أكثر من 17 عامًا، وبين الغوص في التاريخ الذي قلّبه بحيث تتقدّم التفاصيل المُهملة والمُهمّشة إلى المتن، والتنقّل بين الأزمنة والأمكنة، ووضعه كذلك لعلاقة الإنسان بالكتب تحت مجهره لفحصها واكتشاف خصوصيتها وسرّها في زمن السلم والحرب، بالإضافة إلى تنقّله أو مطاردته لشخصياته الغارقة في جحيم الحرب التي تُلقي بظلالها عليها؛ كتب زافون حكاياته الأربعة: "ظلّ الريح"، و"لعبة الملاك"، و"سجين السماء"، و"متاهة الأرواح" التي ظنّها البعض حكايات عن الكتب، بينما يراها هو نفسه عن الناس والأفكار واللغة والقصص، والعلاقة بينها في مختلف الظروف.

اقرأ/ي أيضًا: "سجين السماء".. جزء جديد من رباعية "مقبرة الكتب المنسية"

لا ينكر الروائي الراحل أنّ أجواء رباعيته هذه، أي مقبرة الكتب المنسية، مرتبطة بالقرّاء والكتابة والكتاب وبائعي الكتب والناشرين، وأنّها – غالبًا – تدور في فضاء الأدب. ولكنّه، في المقابل، لا يتوانى عن الإشارة إلى مسعاه في الخوض في ثيمات الأدب الكلاسيكية، فهي تطمح، وبناءً على رغبته طبعًا، وما يريده لها، لأن تكون عن الحياة بكلّ تفاصيلها التي لا يكون الأدب والكتب سوى جزء من تركيبتها المعقّدة والمغرية أيضًا بالنسبة للقارئ.

كتب كارلوس زافون في "ظلّ الريح" سلسلة من الحكايات، حيث نرى الحكاية تولد من الحكاية التي قبّلها، وتمهّد للحكاية التي بعدها، قبل أن يدخلها في نسيج سردي معقّد يدور حول مقبرة الكتب المنسية التي بدت أقرب إلى البئر الذي ينهل منه الراحل هذه الحكايات بشخصياتها المتنافرة التي ستظهر تباعًا منذ أن ذهب والد دانيال سيمبيري به إلى المقبرة ليتجوّل في متاهة الكتب التي سيتجوّل فيها القارئ أيضًا، فيكتشف أنّ الكتب في تلك المقبرة بمثابة حيوات موازية ستشكّل بقية أجزاء الرباعية فيما بعد.

كتب كارلوس زافون في "ظلّ الريح" سلسلة من الحكايات، حيث نرى الحكاية تولد من الحكاية التي قبّلها

بدا الروائي الإسبانيّ الراحل في رباعيته الشهيرة هذه وكأنّه قدر دخل بدوره مقبرة كتب منسية مشابهة، تسلّل إليها سرًّا وعلى حين غرّة، وقرّر ألّا يخرج منها، مُسلِّمًا نفسه إلى سحرها الذي دفعه إلى الكتابة، فبدأ يكتب ويُشارك القرّاء لا ما يكتبه فقط، وإنّما ما يراه ويسمعه داخل تلك المقبرة التي أراد أن يقول من خلالها كلّ شيء، وأن ينطلق كذلك منها إلى تلك الفترة التي أكلت فيها الحرب بلاده، واختفى على إثرها من البشر الكثير: "في الأشهر الأولى من الحرب اختفى الكثير من الأشخاص دون أن يتركوا أثرًا ورائهم. والآن يتجنّب الجميع التحدّث عنهم، والقبور الجماعية كتلك التي دفن فيها خوليان كثيرة" (ظلّ الريح، صفحة 195).

اقرأ/ي أيضًا: رواية "لعبة الملاك".. الغموض والبوليسية في تاريخ برشلونة

بالحديث عن المقابر، على اختلاف أشكالها وتفاصيلها، بدءًا من مقبرة الكتب المنسية ووصولًا إلى المقابر الجماعية المُنتشرة بتلك الكثرة التي تجعل من عملية التعرّف إلى من دفن فيها أمرًا مستحيلًا، وكذا عملية البحث على شخص مفقود، أو حتّى العثور على قبر له أيضًا. وبتأكيده من جهةٍ ثانية بأنّ رباعيته هي قبل كلّ شيء حكايات عن الحياة والناس الذين جاؤوا داخل أعماله مفقودين أو قتلى يملكون حكايات تنتظر من يأخذها بين يديه ويرويها بعد ذلك؛ تكون مقبرة الكتب المنسية عبارة عن مقبرة بشر منسيّين، طُويت صفحتها برحيله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"ظل الريح".. حكاية المدينة مدفونة في مقبرة كتب

معضلة الأدب العظيم