23-أبريل-2019

المترجم الراحل بشير السباعي

فليغيّب العالم أكثر مَن هم تشبثًا بالعالم! ولتكن خيرتهم ممن أبوا إلا القفز فوق الحواجز، الحواجز الكبيرة بين الجسد والذاكرة، إلى عالم آخر حيث لا نطق لاسمهم إلا على صفحات الكتاب. والراحل بشير السباعي واحدٌ منهم، مسيرة حافلة من العمل الثقافي، 41 سنة من الكتابة، وما يعادل 70 عملًا مترجمًا، وعملين نقديين وعدد كبير من المقالات.

الشرط الرئيس في عمل المترجم هو صمته، في وقت يكون أدنى النفس الطالع منه قادر على تعكير عمله المخبري

بشير السباعي يغيب، عن عِرف الغالب من الشباب القارئ في هذا الجيل أقصد، ربمَا نظرًا للعادة السيئة والتي يقترفها كاتب المقال نفسه؛ المرور من أمام اسم المترجم دون إيلاء الاهتمام الكافي له. هكذا يصير لزامًا التعريف بهذا الرجل، في بورتريه نرسم معالمه.

اقرأ/ي أيضًا: "مملكة آدم" لأمجد ناصر.. رسالة اللّاغفران

وبشكل مباشر، ولد بشير السباعي سنة 1944 يوم الـ 15 من كانون الثاني/يناير، في محافظة الشرقية بمصر. درس الفلسفة، وتخرج منها بدرجة مجاز سنة 1966. واختار الاشتغال بالترجمة، بين الأدب والدراسات الفلسفية والتاريخية، نقل عن الروسية والإنجليزية والفرنسية أعمالًا خالدة، وتحصل على جائزة أفضل المصريين الملمين بالروسية وآدابها من المركز الثقافي السوفييتي بالقاهرة عام 1971. كما تحصل عن جوائز أخرى في هذا المجال، كلل بها مسيرته الطويلة.

هذا حد التلخيص لترجمة المترجم، بيد أن السباعي عودنا ألا يقف عند هكذا حد. بل ويضعنا بصمته المطبق، موقع المأزق، موقع التناقض المربك بين كم إنتاجه وندرة حديثه. وفي لحظة عمى ننطلق لسبر أغوار هذا الرجل أكثر، وبعد بحث يطول، نجد شهادة في حقه. نتنفس الصعداء أخيرًا!

تكتب هدى حسين، المترجمة والشاعرة المصرية، رسالة "إلى أبي الحبيب بشير السباعي"، تصف فيها أول لقاء لها بالرجل. وبعد قراءة متفحصة، تتضح الصورة أكثر مطابقة لكل التوقعات: أن الرجل كان بالصفاء اللازم الذي تبرزه أعماله.

هذا يتبدى في مواطن كثيرة من الشاهد، حيث تقول صاحبته: "عندما أخذ بشير يتحدث عن السريالية أدركت في أعماقي أنني وجدت الروح التي يمكنني أن أتعلق بها". وتقول أيضًا: "وكنت في هذه السن الصغيرة، أعرف عن السريالية ما يكفي لأدرك نزاهة هذا الرجل وإخلاصه في التعبير، وأنه يشبهني كثيرًا في إخلاصه الدؤوب لما يحب".

وتنقل على لسانه في موضع ثالث: "كان بشير أول من سمعته يقول إن المترجم كالممثل المسرحي الذي يمثل دور هاملت. لو قال لك المشاهدون: كنت ممثلًا رائعًا تعرف أنك أخفقت في الترجمة. لأن القراء شعروا بوجودك في النص. لكن إن قالوا لك: أحببت هاملت جدًا، تعرف أنك نجحت".

من هكذا إقرار نستبين نظرة السباعي، وبشكل مفاهيمي يخبرنا، أن الشرط الرئيس في عمل المترجم هو صمته، في وقت يكون أدنى النفس الطالع منه قادر على تعكير عمله المخبري.

كان السباعي صامتًا بإخلاص كلبي، أقصد الكلبية الأولى لربها ديوجين، وكان هذا عنده قيمة، إذ نتخيله مخاطبًا نفسه: "صه فإنك تحجبين عني الشمس!".

وهذا شاهد آخر! على ما يبدو فإن أوراق الحظ بدأت تلعب معنا لعبتها السليمة، مناكفة عزلة السباعي. نعثر على شهادة الشاعر المصري محمود قرني في لقاء الرجل، وهي بذات الشكل تحوي عدة شواهد وعكس أولاها تطول، نلقط منها ما يقول صاحبها: "كانت جلستي إلى جوار رجل أخشى جديته وضحكته المتحفظة وكلامه المسرف في قلّته، كان يضاعف خوفي وتحفظي أن ميراثًا هائلًا من المعرفة التي تتوزع بين الشعر والترجمة والتأريخ والنضال يتجسد أمامي في هيئة بشرية". ويقرأ من قصيدته: "نحن الذين مع المجد والثمار المغلية نكبر يوما بعد يوم". يثني السباعي ثناء شحيحًا ومتحفظًا، وينصحه بحذف كلمة المجد.

كان بشير السباعي ميراثًا هائلًا من المعرفة التي تتوزع بين الشعر والترجمة والتأريخ والنضال في هيئة بشرية

يقر محمود قرني، وأوافقه في تحليل الذكرى، أن مترجمنا كان، وكما ذكرنا أولًا، بالكلبية اللازمة التي تجعل من أفكاره متجسدة فيه، فحينما ننزوي لأعماله المترجمة نصادف، وبشكل صارخ توجهها الواضح والمتماهي مع قضايا الوضع العربي، وبالتالي هو لا ينقض عهده مع عقله فيكون طرفًا من أزمة ثقافية متجددة. والمجد هنا، في تمثل السباعي صفة مغالطة إذ تحلق في مطلقها مناقضة الواقع، الواقع الذي يجب أن يكون صريح أو يصمت. هكذا ينقل عنه، عن السباعي، القول إن: "الشعر أضعف وأنبل من أن يفعل ذلك".

اقرأ/ي أيضًا: أرشيف لذاكرة اليمن الفنية

في هذا كذلك دليل عن جذرية قلّ نظيرها عند المثقفين، اتصف بها السباعي مجسدًا "المثقف العضوي" كما يخطه غرامشي، في الارتباط بالشعب، الارتباط الثوري والمناقض لكل إصلاحية. سياسيًا ومعرفيًا، لا مماراة كان شعاره، هكذا كان يغادر صمته، ولو في مرات قليلة، لينتفض صارخا للحقيقة والأحقية، حيث كل شيء جدلي، يكون السباعي بالشكل الذي عرفناه عليه ممن عايشوه: جدلية رجل، في تناقضها خلاقة للمعرفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صعقة في جسد الأدب المغربي.. هكذا غادرنا محسن أخريف

الجيل صفر.. 4 موسيقيين حرروا الأغنية المصرية من العثمانلية