06-فبراير-2019

أمين الباشا (1932-2019)

ألترا صوت – فريق التحرير

ليلة الأوّل من أمس الاثنين 4 شباط/ فبراير الجاري، كان الموعد الأخير للفنّان التشكيلي اللبنانيّ أمين الباشا (1932-2019) مع مدينته التي أحبّ لسنواتٍ طويلة، ودون انقطاع: بيروت. أمين الباشا، أحد رموز الحركة التشكيلية اللبنانيّة ومؤسِّسيها، عدا عن كونه أستاذًا لمعظم فنّاني لبنان من الجيل الثاني، غادر عالمنا عن عمر 87 عامًا، تاركًا وراءه أعمالًا غزيرة كوّن من خلالها صورةً أصيلة ومغايرة لبيروت، لا تراها في أعمالٍ غير تلك التي أنجزها هو.

يعدّ الراحل أمين الباشا أحد رموز الحركة التشكيلية اللبنانيّة، وأستاذًا لمعظم فنّاني لبنان من الجيل الثاني

أعادت وفاة أمين الباشا فتح الباب مجدّدًا للمطالبة باحتفاءٍ حقيقيّ يليق بمكانة الفنّان الراحل، ذلك أنّه، وكما يصرّ ويردد البعض، لم ينل ما يستحقّ من التكريم والتقدير، لا سيما من الجهات الرسمية، وزارة الثقافة أوّلًا. فبعض المعارض التي استعادت بعض أعماله لا تبدو كافيةً لفنّان بحجم أمين الباشا، كلّ ما يحتاجه هو مكان يحمل اسمه، متحفًا أو شارعًا أو غيره في مدينةٍ دأب على رسمها والتقاط تحوّلاتها طيلة ستين عامًا من عمره.

اقرأ/ي أيضًا: اعتراف إلى "مصور الظلال"

أمين الباشا، بشكلٍ أو بآخر، كان يترك بصماته على كلّ ما ينجزه بحدّة. يفعل الفنّان المولود في بيروت سنة 1932 ذلك فتبدو منجزاته البصرية لا تخصّ أحدًا آخر سواه، بحيث تبقى له وحده. وحين كان يرسم، كان يفعل ذلك بتحدٍّ بدا واضحًا وصريحًا للمتلقّي، وإن بدا ما يرسمهُ شديد الرقّة. فالمهمّة التي أخذ على عاتقه إكمالها، تلك التي تمثّلت في صياغة ذاكرةٍ بصريّة حيّة لمدينةٍ مستمرّة في فقدان ما تبقّى من ملامحها الأولى، لم تكن سهلةً على الإطلاق، فبيروت لا تبدو مدينة بملامح يمكن أن تكون ثابتة قطعًا. لا نجد غرابة في أن يستخدم الفنّان الراحل تعبيرًا كـ "بيروت أمين الباشا" حين يُشير إلى ما أنجزه من رسومات جسّدت وصوّرت بيروت في مراحل زمنية كان شاهدًا عليها، ومُختبرًا لتحوّلاتها كذلك الأمر. هو الذي أكّد في أكثر من حوارٍ أُجري معه بأنّ ما يرسمه يلتقط بيروت بصورتها الجميلة، في زمنٍ جميلٍ مضى كذلك. وبالتالي، من الطبيعي أن تكون أعمال أمين الباشا، من جهة، استعادةً مستمرّة لبيروت في ذلك الزمن. ومن جهةٍ أخرى، أن تكون ذاكرةً تتصادم وتتعارك مع التحوّلات العمرانية للمدينة.

ما دأب أمين الباشا على رسمه، يُمكن التعبير عنه، غالبًا، بوصفه بـ "وليمة ألوان" مُعدّة ليقف أمامها المتفرّج بأريحيةٍ كاملة، كأنّ الفكرة من ذلك تحويله من مجرّد ناظرٍ سريع وعابر للوحة، إلى متنزّهٍ في تفاصيلها غير الفوضوية بالضرورة. هنالك إذًا سخاء لوني واضح وغير قابل للجدل في لوحات الباشا، ويحضر في اللوحة بحيث يُكمل موضوعها الأساس، ويكون متلائمًا مع الفكرة الرئيسية لها أيضًا. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، ليكون السخاء اللوني احتفاءً خالصًا ببيروت كذلك الأمر، باعتبار أنّ الألوان التي استخدمها الراحل، كانت إشارة واضحة، وتعبيرًا صريحًا عن البهجة والفرح كسماتٍ عامّة لمدينة بيروت في الزمن المُستعاد داخل اللوحة.

في لوحات الفنان الراحل أمين الباشا تداخل أصيل بين الصورة والحكاية

هكذا رسم الفنّان اللبنانيّ الكبير مدينةً كانت منذ أن اتّجه نحو الرسم مُختبره التخيلي الأوّل، ومادّته التصويرية الأولى، فلم يستثنِ أي تفصيلٍ من تفاصيلها، صغيرًا كان أم كبيرًا. وهكذا كانت بيروت حاضرةً في أعماله بصورةً كاملة، برجالها ونسائها، شوارعها ومنازلها، ومقاهيها برودّاها، وبحرها، وسمائها، وأفقها، وكلّ التفاصيل التي لا بدّ منها في تكوين الصورة الأصل لمدينةٍ كهذه.

اقرأ/ي أيضًا: حسين الحاج.. الشعر كأشغال يدوية

يتّضح لناظر إلى لوحات أمين الباشا التداخل الحاصل بين الصورة والحكاية، كأنّ الراحل الذي كان في سنواته الأولى مولعًا بالرسم والموسيقى والكتابة في آن معًا، قبل أن يطغى الرسم عنده، أراد أن يجعل من اللوحة مساحةً تتضمّن كل ما سبق ذكره، فهي من جهة تبدو جُملة موسيقية كما دأب النقّاد على وصف لوحته. ومن جهةٍ أخرى، تبدو حكاية التقطها الباشا أثناء إعادة اكتشافه وقراءته للمدينة، فدوّنها بين تفاصيل اللوحة من وجهة نظره ككاتب لا كرسّامٍ فقط.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شربل داغر.. تأصيل شامل للوحة العربية وسياقاتها

العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ