17-ديسمبر-2019

آنا كالاينا (IMDB)

في بداية الطبعة الواحدة والسبعين من مهرجان كان السينمائي الذي جرت فعالياته خلال سنة 2018، كشفت إدارة المهرجان عن الملصق الرسمي الذي حمل صورة آنا كارينا في مشهد قبلة حميمة مقتبسة من فيلم "بييرو المجنون" للمخرج جون لوك غودار، وهو مشهد جمعها بالفنان الفرنسي الشهير جون بول بيلموندو. 

صنعت آنا كارينا ثنائية عاطفية وسينمائية مثيرة للجدل مع المخرج جون لوك غودار، عبر لعب البطولة في سبعة من أفلامه

كانت هذه الصورة آنذاك بمثابة لفتة جميلة لمسار هذه الفنانة، التي كُرِّمت لتاريخها الفني كأيقونة لسينما الستينات والسبعينات برصيد أكثر من أربعين فيلمًا. 

اقرأ/ي أيضًا: هيدي لامار.. مخترعة عبقرية أم ممثلة فاتنة؟

كان "الأفيش" الذي صنعته تلك الصورة الفوتوغرافية الحقيقية والنابضة للمصور جورج بيير احتفالًا بالحب والحرية، ليذكرنا بالمشهد الذي قالت فيه آنا لبيلموندو: "أنت تحدثني بالكلمات وأنا أنظر إليك بالمشاعر". 

فضّل المسؤولون عن المهرجان، من خلال مشهد تلك القبلة في خطوة ذكية، أن يبتعدوا قليلًا عن الضجة التي عصفت بكواليس السينما العالمية بسبب قضايا التمييز الجنساني والتحرش الجنسي التي أثيرت بين عدد من النجوم والمخرجين السينمائيين بداية من تشرين الأول/ أكتوبر 2017.

رحيلُ الفتاةِ المغامرة 

في الوقت الذي شهدت فيه الشوارع الباريسية يوم سبتٍ ساخن باستمرار الاضراب والاحتجاجات التي تعيشها فرنسا منذ فترة، وهي أحداث مشابهة لحد كبير لتلك التي عرفها هذا البلد في فترة الستينات، كان هذا السبت أيضًا حزينًا بحق في فرنسا والعالم، وفي كل الأوساط السينمائية العالمية برحيل آنا كارينا بتاريخ الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر الجاري عن عمر ناهز التاسعة والسبعين. 

رحلت الفنانة بعد صراع طويل مع داء السرطان بجوار زوجها المخرج الأمريكي دنيز بيري في إحدى المستشفيات الباريسية، كما صرح وكيل أعمالها لورون بالوندرا لوكالة الأنباء الفرنسية. 

هذا المرض الذي غيّب واحدة من بين أجمل وجوه سينما الموجة الجديدة الفرنسية، ممثلةً، مغنيةً ومخرجةً أيضا، صنعت ثنائية عاطفية وسينمائية مثيرة للجدل مع المخرج الفرنسي السويسري جون لوك غودار، حيث كانت ملهمته وبطلة سبعة من بين أجمل أفلامه.

آنا كارينا كانت أيضًا شريكة غودار في ركوب الموجة السينمائية الجديدة التي صنعتها ثورةُ مخرجينَ وممثلينَ في نهايةِ الخمسينات، وامتدادًا إلى نهاية الستينات، وهي حركة رافضة للسينما بشكلها الكلاسيكي، تتسم بالجموح والحرية والتمرد على التقاليد، حيث شاركت هذه الموجة بفنانيها ومخرجيها في تشكيل جبهة مضادة للمحافظين، وفي المشاركة الفكرية في تشجيع الانقلابات السياسية والثورة الاجتماعية من خلال الأفكار المطروحة في المقالات والأفلام، متأثرين بموجات سينما الواقعية الإيطالية التي نشطت حركتها الثقافية بداية من فترة الأربعينات إلى غاية الستينات، أي خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

من الضواحي الدانماركية إلى باريس 

كانت آنا كارينا رمزًا لعنفوان الشباب والحرية في الموجة الجديدة للسينما الفرنسية، اسمها الحقيقي "هان كارين بلارك باير"، لم تكن في بداياتها سوى مراهقة دانماركية بسيطة زارت باريس في سن الرابعة عشرة رفقة والدها، وهي القادمة من بلدة سولبجرغ في الضاحية الجنوبية لمدينة آرهوس الدانماركية، انحدرت من عائلة مشتتة بين والدة غائبة وجَدٍّ مُحِب، فتاة ذات عينين زرقاوين مائلتين للون الرمادي، حملتا في سحرهما الكثير من الأحلام والجاذبية الهادئة. 

كانت آنا كارينا رمزًا لعنفوان الشباب والحرية في الموجة الجديدة للسينما الفرنسية

في 1957، وفي سن السابعة عشرة، سافرت آنا كارينا على طريقة "الهيتش هايكرز" وحيدة إلى باريس مرة أخرى قادمة من الدنمارك، كانت تحمل مبلغا يقارب العشرة آلاف فرنك جمعته من خلال عروض الأزياء والغناء في الكباريهات الدانماركية، وولجت باريس هذه المرة بطموح كبير وبقلب فتاة تحلم بالاستقلالية، بعيدًا عن والدتها اللامبالية وزوج أمها العنيف، ابتغاءً لتحقيق حلمها الأكبر في التمثيل.

اكتشاف كوكو شانيل 

لم تكن آنا كارينا تدرك أنها ستكون اكتشافًا جديدًا لأيقونة الموضة كوكو شانيل سنة 1959، فقد كانت الشابة تحمل صورها وتتقدم إلى مجلة "إل ماغازين"، حين قابلت تلك السيدة ذات القبعة الكبيرة بشكل مفرط والسيجارة الغريبة رفقة مديرة المجلة، طلبت كوكو اسم الشابة ثم خاطبتها آمِرةً: "إن كنت تريدين أن تصبحي ممثلة، تخلي عن اسمك هذا، من الآن فصاعدًا اسمك آنا كارينا". 

اقرأ/ي أيضًا: أودري تاتو.. من هو الفنّان؟

لم تدرك العارضة الجميلة أن هذه المرأة هي كوكو شانيل شخصيًا إلا بعد مغادرتها المكان، كما صرّحت آنا في حوارٍ لقناة فرانس أنفو. 

 مُلهِمة جون لوك غودار

لقد تعرف الجمهور على آنا كارينا من خلال أدوارها الجريئة في سبعة أفلام للمخرج الفرنسي المثير للجدل جون لوك غودار، هذا الرجل الذي اعتُبِر الأكثر تطرفًا في أفكاره السينمائية من بين زملائه آنذاك، وكان من أعظم المخرجين المجددين الذين خرجوا بالسينما الفرنسية إلى عالم أرحب وأكثر جرأة وحرية. 

جون لوك غودار كان أيضًا أحد الكتاب البارزين الذين باشروا الكتابة في الأعداد الأولى للمجلة الشهيرة "كراريس السينما" التي أسّسها آندريه بازان. 

علاقة آنا كارينا بجون لوك غودار كانت خاصة جدًا، لقد اكتشف كل منهما نفسه في الآخر، كان هذا الرجل الغامض بالنسبة لآنا كارينا بمثابة ذلك الشخص المريب والخجول ذا النظارات السوداء، الذي أثار اهتمامها وبعضًا من خوفها كما صرحت في لقاء تلفزيوني خلال فترة زواجهما. 

لقد شكلا ثنائيًا سينمائيًا خالدًا، تلك الفتاة كانت بحق مصدر إلهامه، إذ يُعَدُّ هذا الثنائي قدوة في كواليس الموجة الجديدة التي اكتسحت فرنسا فنيا وسياسيا سنوات الستينات.

اكتشفها جون لوك غودار وهو يعمل كصحفي في مجلة "كراريس السينما"، حين شاهدها عارضةً في فيلم إشهاري لماركة صابونٍ سنة 1959. هناك، عرض عليها المخرج دورًا ثانويًا في فيلم  "À bout de souffle"رفقة الممثل جون بول بيلموندو بعد عدة تجارب للأداء، لكن آنا كارينا رفضت هذا الدور بحجة وجود مشهد للتعري. 

بعد أشهر قليلة، قبلت آنا كارينا بدور البطولة في فيلم آخر له بعنوان "الجندي الصغير" سنة 1960 دون شروط، حتى أنها لم تطلع على السيناريو. 

علاقة آنا كارينا بجون لوك غودار كانت خاصة جدًا، لقد اكتشف كل منهما نفسه في الآخر

لقد كان فيلمًا عن الحرب في الجزائر آنذاك، حيث أحدث ضجة كبيرة ومُنع من العرض في فرنسا لحساسية الموضوع. 

اقرأ/ي أيضًا: ماريون كوتيار: كان حلمي بسيطًا

كان الإعلان المخصص لكاستينغ هذا الفيلم فريدًا من نوعه، غودار "يبحث عن بطلةٍ لفيلمه وعن نصفه الآخر"، الأمر الذي أثار جدلًا وسخطًا في الوسط الفني بعد أن فتح هذا الفيلم الباب أمام علاقة حب نشأت بين آنا كارينا وجون لوك، اتهم البعض آنا حسب تصريحات لاحقة لها باستغلال التمثيل لتكوين العلاقة ونعتوها بأبغض الصفات، مع أنها أنكرت أصلًا أنها عرفت معنى عبارة "نصفه الآخر" في الإعلان لضعف لغتها الفرنسية آنذاك. 

توج هذا الارتباط بالزواج سنة 1961، وأرجحت آنا كارينا سببه إلى حملها، وربما لحب غودار لها كما قالت في أحد اللقاءات التلفزيونية.

جاء بعد ذلك دورها في فيلم "المرأة هي المرأة" في تعاون آخر بينهما كزوجين، حيث حصلت من خلاله على جائزة أحسن ممثلة في مهرجان برلين رغم عدم تحقيق أي نجاح للفيلم. 

جمع بين الثنائي في المجمل سبعة أفلام ونصف! لماذا النصف؟ لأن الفيلم الثامن كان عبارة عن "اسكتش"، قالت آنا في تصريح تلفزيوني سنة 1987. 

ومع أنها كانت النجمة الأيقونة في أفلام غودار، إلا أن حصيلتها المقدرة بأزيد من أربعين فيلمًا أثبتت أنها نجمة كبيرة أيضًا خارج هذا الثنائي، من خلال العديد من التجارب السينمائية كتلك التي جمعتها بلوتشينو فيسكونتي في فيلم "الغريب"، المقتبس من رواية بنفس الاسم للكاتب ألبير كامو، والذي صورت أحداثه في الجزائر العاصمة سنة 1967. 

إضافة إلى أفلام أخرى مع مخرجين مثل جون أوزيل، ميشال دوفيل وجاك ريفات الذي منحها دورها الفريد في شخصية سوزان سيمونان من خلال فيلم "المتدينة" (1967).

غنت آنا كارينا في سن صغيرة بشغف في كباريهات دانماركية كثيرة، واستمرت تطرب الجميع بصوت ساحر

رغم انفصال آنا كارينا عن جون لوك غودار سنة 1967 بعد تجربة مريرة مع فقدانها الحمل وحرمانها من الأمومة لبقية حياتها، بقيت الفنانة متصلة مهنيا بهذا المخرج وعملا معًا في عدة أفلام. 

اقرأ/ي أيضًا: أليسيا فيكاندر: الألم الذي يمكنك احتماله يتغيّر

تزوجت آنا بعدها من المخرج بيار فابر، ثم من دانيال دوفال، وأخيرا مع المخرج دونيز بيري. 

صوت آنا الجاذب

غنت آنا كارينا في سن صغيرة بشغف في كباريهات دانماركية كثيرة، واستمرت تطرب الجميع بصوت ساحر غير مصطنع أضاف لمسة متفردة لأدائها التمثيلي، صنعت الفنانة من خلاله شخصية مستقلة في معظم أفلامها، فقد كانت تمنح بلكنتها الخاصة وفرنسيتها المرتبكة أغاني مميزة شابهت المغناطيس الذي جذب اهتمام الجميع نحوها. 

ولعل أشهر ما غنت كانت تلك الأغاني التي كتبها ولحنها المغني سيرج غانسبورغ من خلال الكوميديا الموسيقية التلفزيونية الوحيدة التي ألفها سنة 1967 تحت عنوان "آنا".

تعتبر هذه الكوميديا الموسيقية سابع ألبوم للمغني سيرج، حيث ذاع سيط أغنية "تحت الشمس تحديدًا" بشكل كبير، وشكل الاثنان ثنائيًا غنائيًا ساحرًا.

غنت آنا كارينا أيضًا لأنطوان دومال وميشال لو غرون، وتعاونت أيضًا مع المؤلف الموسيقي سيرج ريزفاني في أغنية "خطّ حظي". 

لم يتوقف مشوار آنا كارينا الغنائي خلال فترة الموجة الجديدة، ففي سنة 2000 قامت بالمشاركة في ألبوم حمل عنوان "قصة حب" رفقة المؤلف الموسيقي الشاب فيليب كاترين، حيث أعادا توزيع أغنية "تحت الشمس تحديدًا"، والمقطع الشهير من فيلم بييرو المجنون.

تجربة الإخراج

في سن الثانية والثلاثين، أخرجت آنا كارينا في تجربة وحيدة فيلمها الذي حمل عنوان "العيش سوية"، بعد رحلة مليئة بالمغامرة قادتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عاشت لمدة سنة، وزادت هناك رغبتها في خوض هذه التجربة. كان الفيلم أيضًا من إنتاجها الخاص، وكتبت بنفسها السيناريو، كما ساهمت في المونتاج. عالج هذا الفيلم مشاكل العلاقات والحب، المخدرات والكحول. 

لقد كانت تجربة صادمة للبعض، فلم يتوقع أحد أن تُقدِم الممثلة على تجربة الإخراج هذه، حتى أنها استعملت اسما مستعارًا مذكرًا خوفًا من ردود الأفعال "الذكورية" في الوسط السينمائي آنذاك. 

صرحت آنا كارينا بعدها لوكالة الانباء الفرنسية بأن هذا الفيلم كان بمثابة بورتريه لأحداث مشابهة لحياتها في فترة الشباب. 

تم ترميم الفيلم سنة 2017، وأعيد عرضه في مهرجان لوميار خلال نفس السنة، ومن ثمّ في دُورِ العرض السينمائي بداية من 14 شباط/فيفري 2018، حيث لاقى ردودًا إيجابية من النقاد.

في سن الثانية والثلاثين، أخرجت آنا كارينا في تجربة وحيدة فيلمها الذي حمل عنوان "العيش سوية"

خلال سنة 1987، وضعت آنا كارينا كل جهدها وموهبتها في التمثيل وكتابة السيناريو والغناء تحت تصرف زوجها المخرج الأمريكي دونيز بيري الذي أخرج خلال تلك الفترة فيلم "الأغنية الأخيرة". 

اقرأ/ي أيضًا: مونيكا بيلوتشي: أحب أن أستكشف الجانب المظلم في البشر

توفيت الأيقونة آنا كارينا إلى جوار زوجها دونيز الذي أهداها خلال عام 2008 وثائقيًا كعربون للحب الذي جمعهما بعنوان "آنا كارينا.. تذكري"، عاش الزوجان معًا منذ سنة 1982 إلى غاية يوم وفاتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جولييت بينوش.. التحرر عبر التجريب

جولي دلبي: على الناس الاهتمام بجوهرهم الداخلي