27-أغسطس-2020

ثريا جبران (Getty)

لم تكن الفقيدة ثريا جبران، تلك التي صعق المغاربة بخبر وفاتها أولَ أمس، فنانة كباقي زميلاتها على ركح المسرح، أو أمام فوهة الكاميرا، مثلت دور الأيقونة الفذة في تاريخ هذه الفنون بالمغرب، وفي وجدان المغاربة هي الصوت الصاعد منه، من همومه وآلامه. ليترصدها السرطان باختطاف، يرزأ به جمهورها والبلاد، عن سن ناهز 68 سنة.

لثريا جبران إسهام كبير في نهضة المسرح المغربي في النصف الثاني للقرن العشرين

باسم شخصي يجهله العامة، سعدية قريطيف، ازدادت ثريّا جبران بالدار البيضاء سنة 1952، لأب توفيَ وهي في سن مبكر وأم تعمل مربيّة في إحدى دور الأيتام الخيرية. مثّلت دارُ الأيتام تلك، التي كانت والدة الفنانة تصحبها إليها، أول مدخل لها إلى أب الفنون، المسرح الذي أبدت فيه موهبة كان لقريبها محمد جبران، الذي كان يشتغل بنفس الدار هو الآخر، دور كبير في صقلها. ومن هنا عرفت ثريا جبران انطلاقتها، وجزء من الفضل الكبير يعود لهذا الرجل الذي اقترضت منه اسمه العائلي كاسم شهرة لها فيما بعد.

اقرأ/ي أيضًا: المسرح المغربي والحركة الوطنية.. محمد القري أنموذجًا

عشقت المسرح قبل أن تدرسه، وهذا العشق الذي دفعها إلى الحصول على شهادة من المعهد الوطني للفنون الدرامية. لتعتلي بعدها الخشبة أول مرة كمحترفة سنة 1972، ضمن فرقة "مسرح الناس" بقيادة هرم المسرح المغربي، المرحوم الطيب الصديقي. الصديقي الذي سبقها في الرحيل، فنعته باكية "يتمها ويتم المسرح المغربي" يومها بشهادة: "أن الصديقي كان لها بمقام الأب والأخ والمعلم الذي صنع مسيرتها الفنيّة". هذه العلاقة الوطيدة بين القامتين الكبيرتين للمسرح المغربي ثمنت بأعمال ذاع صيتها وطنيًا وعربيًا، على رأسها "أبو حيان التوحيدي"، و"أبو نواس"، و"ديوان عبد الرحمان المجذوب".

ولثريا جبران الإسهام الكبير في نهضة المسرح المغربي في النصف الثاني للقرن العشرين، وعمليًا بتأسيسها ودعمها لعدة فرق مسرحية برفة رفاقها في الفن. قبل أن تضع بداية الثمانينيات، هي وزوجها، الكاتب والمخرج عبد الواحد عوزري، الحجرَ الأساس لمجموعة "مسرح اليوم" الذي ارتبط اسم ثريا جبران بها. وعرضت من خلالها عدة أعمال بلغت العالمية، من ضمنها مسرحية "أربعة ساعات في شاتيلا" للكاتب الفرنسي الراحل جان جنيه، ومسرحية "الشمس تحتضر" للشاعر المغربي الكبير عبد اللطيف اللعبي. وهما المسرحيتان اللتان كتب فيهما الشاعر والروائي المغربي ياسين عدنان:"مَن غيرُها (ثريا جبران) يتجرّأ على نص صعب لجينيه ضمَّنه تضامنه مع فلسطين وقضيتها العادلة، وشهادته عن المجزرة التي اقترفها الصهاينة في حق اللاجئين الفلسطينيين بمخيم شاتيلا بلبنان؟ ثم مَن غيرها نجح في إعادة عبد اللطيف اللعبي إلى الخشبة؟ في "الشمس تحتضر" احتضنت قصائد الشاعر المغربي الكبير بحدب ورُقيّ؛ لكنها تذكرت أنّ اللعبي كان ممثلًا مسرحيًا في بداية عنفوانه، فأعادته إلى الخشبة، استعادته ليقف إلى جانبها على الخشبة نفسها".

لاسم جان جوني وعبد اللطيف اللعبي دلالة في حياة الفنان الراحلة، فالأول كاتب أفنى حياته لدعم القضية الفلسطينية والثاني شاعرٌ يساريٌ فدى الشعوب بسنوات مريرة من الاعتقال والتعذيب. وثرية جبران جمعت الصفتين في شخص واحد، فقد كانت ابنة اليسار المناضلة والمعبرة بفنها وعملها السياسي على هموم المسحوقين من الشعب والمظلومين، ولهذا السبب اختطفت هي الأخرى، عذبت وحلق شعر رأسها بيد قوات القمع خلال سنوات الجمر والرصاص التي عرفتها البلاد. كما منعت من إجراء تداريبها وعرض أعمالها المسرحية في أكثر من مرة.

سنة 2007، ستكلف ثريا جبران بمسؤولية إدارة الشأن الثقافي بالبلاد، في منصب وزيرة الثقافة ضمن حكومة عباس الفاسي حينها. في سابقة عربية أن يتكلف فنان مسرحي بذلك المنصب، جعلت الراحل النهضة الثقافية بالبلاد نواة أعمالها، كما حافظت على مبادئها صلبة، والشاهد دعوتها آنذاك لمقاطعة معرض باريس للأدب، الذي كانت نسخته تستضيف دولة الاحتلال الصهيوني كضيف شرف لنسختها.

عذبت ثريا جبران وحلق شعر رأسها بيد قوات القمع خلال سنوات الجمر والرصاص التي عرفتها البلاد

غير أن هذا التنصيب لم يرق الصحافة الوطنية، التي انهالت عليها بجام الانتقاد، خصوصًا وأن هذه الصحافة لم تعتد وجود وزيرٍ ومسرحي في نفس الوقت، ولم تعتد إصرار جبران التي قاومت كي لا تغادرَ فنها أمام انشغالات الوزارة، فلقد كانت: فنانة أولًا ثم وزيرة. كما أن الأمرَ لم يرق كذلك وزراء من نفس حكومتها، الذين رأوا أن الفن يؤثرُ على "صورة" الوزير، يقول ياسين عدنان: "من المؤسف أن زميلًا لها في الحكومة اسمه خالد الناصري كان وزيرًا للإعلام وناطقًا رسميًا باسم الحكومة تعامل معها بالكثير من العجرفة، حتى إنه سعى إلى إيقاف بثّ المسلسل على أساس أنّ الأدوار الهزلية التي تؤدّيها ثريا، بطلة المسلسل، قد تؤثر على صورتها وزيرةً، وقد يتضرّر منها الأداء الحكومي". ردت هي أن "نظرة هذا الوزير إلى فن التمثيل شديدة السطحية، موضحة أن سلسلتها الفكاهية عمل إبداعي ينبع من هموم المجتمع، وأن عملها يمكن أن يساعد أفراد الحكومة في النزول من أبراجهم العاجية، والاقتراب من نبض الشارع"، قبلَ أن تفضل الفن على الحقيبة الوزارية وتقدّمَ استقالتها من الوزارة سنة 2009.

اقرأ/ي أيضًا: محمد فراح مسرحي على الطريقة الغرامشية

فيما لم تغب الأيقونة ثريا جبران عن الشاشة الكبيرة، راسمة عليها هي الأخرى بداية كبيرة، عبر عدسة المخرج العالمي عباس العقاد في فيلمه "عمر المختار". مثلت بعدها في أفلام مغربية ضمنها "أرغانة" لحسن غنجة، و"عود الورد" للحسن زينون. ترحل خلال هذه السنة الفاجعة، وكأن هذه السنة لم تكفي فجائعًا، موت الفنانة القديرة كان أصعبها: سرطان مقيت وقف خلفه، وتكبدها شعبٌ يعشق اسم ثرية جبران.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المسرح يوحّد المغرب العربي.. مهرجان مشترك في الأفق

هل يمكن أن تتحول رحلة أبو خليل القباني إلى أمريكا إلى فيلم سينمائي؟