04-ديسمبر-2022
مشجعون في تايمز سكوير يشاهدون مباراة الولايات المتحدة وإنجلترا

مشجعون في تايمز سكوير يشاهدون مباراة الولايات المتحدة وإنجلترا

نظام تحديد المواقع على هاتفي (GPS) بات أذكى مما كان عليه من قبل. كلما ظهر على شاشة السيارة التي أقودها يقترح عليّ، وبنجاح لافت، الطريق التي يجدر بي أن أسلكها لأصل إلى مقصدي. خوارزمياته تنبئه أنني في مثل هذه الساعة من كل يوم أقود سيارتي باتجاه هذا المقهى، وأنني غالبا ما أتسوق من السوبر ماركت في ساعة متأخرة من النهار. هكذا، وبحسابات بسيطة، يستطيع أن يتنبأ بمساراتي كلها. ونادرا ما يخطئ في تقديره.

لكنني أعيش في مدينة مكتظة ومنتشرة على مساحة واسعة من الأرض. يقطنها ملايين البشر غيري، وثمة فيها ما يعجز الخيال عن الإحاطة بتنوعه. مع ذلك، لا يكف نظام تحديد المواقع عن التخمين بنجاح.

التنوع هو الخطاب الذي لا تكل المدن عن تكرار معزوفته كل صباح. والقاطنون في هذه المدن غالبًا ما يتركون خيارات اختبار هذا التنوع والإبحار فيه للمناسبات الخاصة

إلى هنا يبدو ما تقدم مديحا للذكاء الاصطناعي. لكن الأمر في حقيقته خادع ومقيت. إذ ما حاجتي أنا الذي أقود سيارتي كل يوم في الساعة نفسها من بيتي إلى مركز عملي إلى من يدلني إلى الطريق؟ وما حاجتي لنظام تحديد مواقع يدلني على المقهى الذي يقع على بعد كيلومترين فقط من بيتي؟

في الحقيقة، يبدو لي هذا التطور في الذكاء الاصطناعي مجرد استعراض لا قيمة حقيقية له. لكن المعركة ليست قائمة بين ذكائي الطبيعي وذكاء الهاتف الاصطناعي. هذا الذكاء الاصطناعي الذي ينجح في توقع مساراتي كلها يدلني إلى واقع أن حياتي ضئيلة وجافة إلى الحد الذي يجدر بي معه أن أخاف حقًا. أعيش في مدينة واسعة ومتنوعة. لكنني أكرر روتيني الصغير كل يوم. إلى حد أنني بت أحفظ أنواع السيارات المركونة على جانبي الطريق في أي ساعة من النهار أو الليل. هذا التنوع لم يعد من شؤوني التي أريد أن اختبرها. أقوم كل يوم بالنشاطات نفسها التي قمت بها أمس. وإن حدث وكان المقهى مقفلًا اليوم، لأي سبب من الأسباب، لا أفتش على مقهى آخر لأشرب قهوتي وأتصفح شاشتي. سأقفل عائدًا إلى البيت، وأؤجل شرب قهوتي إلى اليوم التالي حين يكون المقهى نفسه مفتوحًا والطاولة نفسها فارغة.

أجزم أن حياة كل واحد من سكان المدن تشبه حياتي في انعدام تنوعها ومفاجآتها. مع ذلك لا تكف المدن الكبرى عن وعدنا بالتنوع. التنوع هو الخطاب الذي لا تكل المدن عن تكرار معزوفته كل صباح. والقاطنون في هذه المدن غالبًا ما يتركون خيارات اختبار هذا التنوع والإبحار فيه للمناسبات الخاصة. بعد أسابيع قليلة سيحل عيد الميلاد، وفي ليلته سنحاول أنا وبعض الأصدقاء أن نجرب الطعام في مطعم بعيد عن مساراتنا اليومية. بعيد عن ثقافاتنا أيضًا. وما أن تنتهي ليلة الميلاد سنعود إلى شؤوننا المتكررة كما لو أن هذا المكان الذي اكتشفناه للتو لم يوجد أصلا.

حياة المدن في الزمن الراهن باتت شديدة المحدودية. والأرجح أن الخطاب الذي تقدمه عن التنوع، بات خطابًا مملًا. لا أحد يملك الأعصاب والوقت اليوم لاختبار الجديد. وما دام القليل الذي نحيا فيه يكفينا ويلجئنا، فليس ثمة حاجة لكل هذه الأضواء. والحال، بات المقيم في مدينة كبيرة يستطيع أن يلاحظ حدودًا غير مرئية بين الأحياء. حدود لغات ولهجات وأعمار وأجناس. أكثرية لاتينية تقيم في هذه الجهة من المدينة، وفي الجهة الأخرى تقيم أكثرية من الكوريين، وثمة حدود لا يمكن للمتحدرين من تركيا عبورها إلا خفية، ذلك أن هذا الجزء من المدينة تقيم فيه أكثرية أرمنية، ولن تسمح لتركي أن يقيم فيها.

فلاسفة ما بعد الحداثة احتفلوا كثيرًا بهذا التجاور المتنوع. لكنه في حقيقته الصارخة يبدو تمنعًا على الاندماج. تعيش في أقاصي الأرض، لكنك لن تتخلى عن عاداتك في استخدام خبز الصاج أو التنور. وستصادفك لافتات لا تحصى عددًا، لكنك ستذهب إلى المكان الذي تعرفه فقط. وفي نهاية المطاف يبدو عالمك كله محشورًا في بضع مئات من الأمتار. أما الفضول الذي يغذي الليبراليات ويمدها بأعصاب مناعتها على الانهيار فيبدو أنه فقد وهجه وها هو نوره يخبو يومًا بعد يوم.