12-مارس-2025
 وليد جنبلاط الى جانب السيارة التي اغتيل فيها والده (وسائل التواصل الاجتماعي)

وليد جنبلاط الى جانب السيارة التي اغتيل فيها والده (وسائل التواصل الاجتماعي)

صباح الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وبعد ساعات قليلة على انتشار نبأ سقوط نظام بشار الأسد، وصلت مسيرة حاشدة إلى بلدة المختارة، في الشوف. كانت لأبناء الشعب السوري في لبنان، الذين رفعوا علم ثورة بلدهم وقرّروا أن يحتفلوا في ذاك اليوم عند ضريح الشهيد كمال جنبلاط. ربما لأنه يشبه معاناتهم، هم أبناء الشتات الذين هُجّروا من بلدهم 13 عامًا ثمنًا لمطالبتهم بحرية بلدهم، تمامًا كما جنبلاط الذي وقف بوجه حكم دمشق رافضاً إدخال لبنان في السجن الكبير، فدفع حياته برصاصات اخترقت سيارته في 16 أذار/مارس 1977.

"أخالها طلقات الغدر حين هوت، تكاد لو أبصرت عينيك تعتذر"، هي كلمات أهداها الشاعر اللبناني الجنوبي شوقي بزيع لكمال جنبلاط بعد أسابيع على اغتياله، وإذ بهذه الرصاصات التي تخثّرت بدمه تعيش 48 عامًا، لتبقى شاهدة على التاريخ المشؤوم، لكنها هُزمت بعد 5 عقود، وانتصرت الفكرة على آلة القتل، وانتصرت العدالة.

يعود طيف كمال جنبلاط بقوة هذا العام، ولبنان كما سوريا دخلا في مرحلة جديدة من تاريخهما. من المبكر الحسم بأن البلدين قد عبرا فعلًا نحو المستقبل الأفضل

بهذا التحدّي يحيي الحزب التقدمي الإشتراكي، الذي أسّسه جنبلاط في 1 أيار/مايو 1949، الذكرى هذا العام. فالقدر قال كلمته، وحوّل المناسبة إلى محطة استثنائية، وقد سقط النظام المتهّم باغتياله. لتعود الذاكرة بكل صخبها إلى سبعينات القرن الماضي، يوم دارت لعبة الأمم بكل سوداويتها على أرض لبنان، الذي دفع الثمن 15 عامًا من حرب أهلية قاتلة، لم تنته باغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005.

بين كمال جنبلاط ورفيق الحريري

"دخلوا على دم كمال جنبلاط وخرجوا على دم رفيق الحريري"، كرّر وليد جنبلاط هذه الجملة مرارًا، مختصرًا سنوات عجاف من تاريخ العلاقة بين لبنان وسوريا. وهي بالحقيقة عمر المشقّة التي قاسى منها الشعب اللبناني، والتي حوّلت هذا الوطن الصغير من سويسرا الشرق إلى صندوق بريد، ومن مشروع دولة مدنية، أسّس لها كمال جنبلاط في البرنامج المرحلي للحركة الوطنية مع نخبة من القوى الوطنية والمفكرين، إلى دولة تنخرها الطائفية والانتماءات العابرة للحدود على حساب الإنتماء الوطني ومشروع الدولة السيدة الحرة والمستقلة.

 أوان الورد

لكل هذا، يعود طيف كمال جنبلاط بقوة هذا العام، ولبنان كما سوريا دخلا في مرحلة جديدة من تاريخهما. من المبكر الحسم بأن البلدين قد عبرا فعلًا نحو المستقبل الأفضل، لكنها يعيشان فرصة نادرة قد لا تتكرّر إذا ما ضاعت. فالحلم سبق وعاشه الشعبان اللبناني والسوري قبل 20 عامًا، يوم كتب الشهيد سمير قصير "ربيع بيروت، حين يزهر، إنما يعلن أوان الورد في دمشق"، وكان شلال الدم الذي خطف الثورتين، في بيروت ودمشق... فهل آن اليوم فعلًا أوان الورد؟

ذكرى استثنائية

يعلّق النائب عن الحزب التقدمي الاشتراكي في البرلمان اللبناني، بلال عبدالله، في حديثٍ لـ"ألترا صوت"، على الذكرى، مشيرًا إلى أن "محطة 16 أذار/مارس كانت دائمًا، منذ العام 1977 تاريخ الاغتيال، حدثًا سياسيًا استثنائيًا بالنسبة للحزب الاشتراكي وبيئته، وكذلك على المستوى الوطني اللبناني. ويتكرر هذا المشهد عامًا بعد عام، ليبقى هذا اليوم يوم الوفاء لكمال جنبلاط، الذي تميز في هذا الشرق بمسيرته، وفكره، وعطائه، ومنهجه في العمل السياسي".

ويضيف عبدالله: "لطالما كانت هذه الذكرى حاضرة في وجدان اللبنانيين، وخصوصًا لدى الحزب التقدمي الاشتراكي وأصدقائه وحلفائه، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي. وكانت المختارة دائمًا مقصدًا لمن أحبّ واحترم كمال جنبلاط، سواء من اللبنانيين أو الفلسطينيين أو الأجانب".

ويتابع: "أما سبب اعتبار هذه السنة استثنائية، فذلك يعود إلى الزلزال السياسي الذي شهدته المنطقة. لقد انهار النظام القاتل المجرم الذي اغتال كمال جنبلاط، ودمّر لبنان وشعبه ومقدّراته على مدى أربعين عامًا، حتى عام 2005".

ويعتبر عبدالله أن "هذا التحوّل التاريخي في المنطقة، وليس في سوريا فقط، يؤكد أن كمال جنبلاط كان على حق عندما رفض الانضمام إلى السجن العربي الكبير الذي سعى حافظ الأسد لفرضه على لبنان. وأعتقد أن المسيرة التي قادها وليد جنبلاط، والتي حمل فيها الحزب الاشتراكي هذا النهج السياسي والفكري، واستمرت رغم كل المحطات الصعبة والأزمات والتضحيات، نجحت في الحفاظ على إرث كمال جنبلاط".

ويختم عبدالله: "لذلك، فإن إحياء الذكرى هذا العام، في ظل زوال هذا النظام، وخصوصًا بعد اعتقال من خطط ونفّذ عملية الاغتيال، يشكل محطة تاريخية مميزة تتماشى مع التحولات الكبرى في المنطقة. كما أنها تتوافق مع تمسكنا بالقضية الفلسطينية، وحرصنا على الوحدة الداخلية اللبنانية، والأهم من ذلك، التقدم نحو بناء لبنان المواطنة، الحلم الذي لطالما سعى إليه كمال جنبلاط".

بين كانون وأذار

ربما من مفارقات القدر، أن تتلاقى الأيام على طريقتها، وهذا ما حصل مع كمال جنبلاط. ففي 8 كانون الأول/ديسمبر، وبعد يومين فقط من ذكرى مولده، التي يحتفل فيها حزبه بوضع زهرة على ضريحه، سقط نظام الأسد. وقبل حوالى الأسبوع فقط من تاريخ اغتياله، أعلن الأمن العام السوري إلقاء القبض على رئيس الإستخبارات السورية السابق اللواء ابراهيم حويجة في السادس من أذار/مارس الجاري، المتهّم الأساسي في الإشراف على تنفيذ عملية الاغتيال.

وحويجة لواء في جيش النظام السوري المخلوع وأحد كبار ضباط الأمن السوريين، متهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إضافة إلى تدبير عمليات تصفية استهدفت سياسيين ومعارضين داخل سوريا وخارجها.

حشد للإشتراكي

يستعد الحزب التقدمي الإشتراكي لحشد غير مسبوق، يوم الأحد المقبل، بعد دعوة مباشرة من رئيسه السابق وليد جنبلاط لأوسع مشاركة في المهرجان الشعبي الذي سيقام في المختارة. ومن المرتقب أن يكون فيه كلمة مهمة لجنبلاط، مستعرضًا فيها هذه المسيرة الطويلة من اغتيال والده حتى اليوم، مطلقًا سلسلة مواقف سياسية يؤكد فيها الثوابت على المستوى اللبناني، إضافة الى تجديد الموقف الثابت دعمًا للقضية الفلسطينية، إلى جانب التأكيد مرة أخرى على وحدة سوريا ورفض أي مشروع تقسيمي، وأن طائفة الموحدين الدروز في سوريا هي جزء لا يتجزأ من الدولة والوطن السوري.

المؤامرة الإسرائيلية

تكتسب الذكرى، كما كلمة جنبلاط الإبن فيها، رمزية خاصة وتتضمن رسائل كثيرة. فالمرحلة الدقيقة التي تمرّ بها المنطقة، فرضت عليه معركة ضارية في وجه مؤامرة إسرائيلية كبيرة، في ظل محاولة لسلخ الدروز في سوريا وادعاء حمايتهم، كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر من مرة، وكانت المرة الأكثر صراحة بعد حادثة جرمانا ومحاولة استغلالها.

فجنبلاط اليوم رأس حربة في معركة تنتصر إذا انتصرت فيها سوريا الدولة لجميع السوريين، الدولة التي تحتضن جميع أبنائها لأي طائفة انتموا، وهنا يكمن التحدّي الأكبر.

وبعدما كان أوّل الزائرين للرئيس السوري أحمد الشرع، يستعد جنبلاط لزيارة ثانية إلى دمشق، ليؤكد من جديد أن سوريا تستحق الفرصة وهي أكبر من مشاريع التقسيم. 

يتقمّص جنبلاط في هذه المهمة، الدور الذي لعبه والده من قبله، يوم فضح مشروع الدولة الدرزية في أواخر الستينات، مستعينًا بالرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

تكتسب الذكرى، كما كلمة جنبلاط الإبن فيها، رمزية خاصة وتتضمن رسائل كثيرة. فالمرحلة الدقيقة التي تمرّ بها المنطقة، فرضت عليه معركة ضارية في وجه مؤامرة إسرائيلية كبيرة، في ظل محاولة لسلخ الدروز في سوريا وادعاء حمايتهم

"المعلّم"

يفضّل مناصرو كمال جنبلاط أن ينادوه بـ"المعلّم". فالسياسي الشاب الذي وجد نفسه مكرهًا يخوض غمار السياسة مطلع الأربعينات من القرن الماضي، كان يفضّل أن يكون طبيبًا أو كاتبًا أو أي شيء إلا السياسي. فكان يمقت السياسة التي يمارسها عادة الحكام في هذا الشرق، لكنه كان يقول في كتابه "أدب الحياة" أن السياسة هي أشرف الفنون لأنها فن قيادة الرجال.

وهكذا مارس السياسة طوال مسيرته، تمرّد على كل تقليد غير مفيد، وقف بوجه الحكام والرؤساء، ولم يتردّد بعنونة "مانشيت" جريدة الأنباء التي يملك امتيازها، معلنًا ثورته البيضاء مطلع الخمسينات "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب". لكنه كان عالمًا رؤيويًا، وفليسوفًا مخطوف بروحانيته العالية، وإلا لما كان ليكتب يومًا هذه الكلمات:

غدًا، ستمرّ الرياح الهوج

في بيتي

وتهدم الاثقال من فوق كتفيّ…

غدًا ستسير الخيول الحمر

في الربوع

ويرتوي الباشق من دم العصفور

في ثورة الأحرار.

غدًا، سأكون ملتحفًا رداء الأرض

ويتنزل المطر عليّ،

على جسدي الملهوف الذي ينبري،

في حصيد الغاب،

أقحواناً وزنبق.

ثم تأتي الدوالي العوج

فتغرف خمرها من دمي المحرور،

ومن وجنتيّ…