19-يناير-2018

كيفورك مراد/ سوريا

كان الطريق خاليًا من البشر. أوراقُ شجرٍ تتساقط وأرضٌ مُوحلة. لا صدىً لصوتي إن صرخت. ظلامٌ لا يشبه إلا الظلام. قررت الاستمرار في التقدم فلا هذا الطين ولا هذا الظلام سيدوم إلى الأبد. في الخلفية أصواتٌ غريبةٌ خلتها لحيوانات مفترسة لا صورة لها في ذاكرتي.

تابعت تقدمي بصعوبةٍ بالغة، كنت أجرٌّ قدميّ جرًّا. انتابتني موجة قشعريرةٍ مفاجئة. شعرت بألمٍ شديدِ عندما وقع ذلك الغصن على كتفي. نزلَ عليّ كالصاعقة. لم أشعر بذراعي. ثَقُلَ جسدي. رغم ذلك قررت التقدم إلى الأمام، لا مجال للرجوع. إنْ عدتُ سيكون الطريق أطول وأصعب وقد لا أعيش لأرى البداية من جديد، هذا إن كان لهذا الطريق بداية. سأكمل لأحصل على نهايتي التي أستحق. أحسست بأنني أرى نورًا لكن عقلي أخبرني إنّ التعب قد يجعلني أتخيل أمورًا غير موجودة لا أعيها.

سحبت نفسي إلى الأعلى واقفًا بعد أن وقعت على الأرض. نهضتُ ﻷتابع المسير. بدأتُ أرى سرابًا للأشياء يلوح من بعيد. لقد أُنهكت لا محالة. كيف أستطيع رؤية الأشياء في هذا الظلام؟ هذا هوس التعب والجوع، قلت لنفسي. بدأت الأمطار تشتد. كيف سأكمل المسير في هذا المكان الذي لا أعرف كيف وصلت إليه؟ من وضعني هنا؟ لعلّ ما أنا فيه الآن هو أسوأ ما يمكن أن يحدث للمرء. ارتفع الصوت، إنها أصواتُ جموع بشريّة، لكن لا، أمِنَ الممكنِ أن يصرخ المرء في هكذا مكان؟

أعطاني هذا الصوت جرعةً من الأمل، ربما خرج الصوت من داخلي لكن لا يهم سأحاول العثور هذا الصوت. كيف؟ ثيابي ممزقة وحالتي يرثى لها، منذ أيام طويلة لم يدخل شيءٌ إلى جوفي؛ لا طعام ولا شراب. لا يهم سأكمل، أقول بصوت عالٍ لأحفّز نفسي، لا أريد أن أموت هنا، أريد أن أعيش ولا أريد التفكير بالموت.

 يا إلهي إنّه ضوء! ها قد اقتربت النهاية إذًا. عساها تكون نهاية تستأهل كلّ هذا العذاب. ها هو الصوت أيضًا، إنّني أسمعه بوضوح. أنا لا أهلوس. إنّه ضوءٌ وصوت.

بدأت الأشجار تتساقط بعيدًا عني، دون أن يكون لها أيّ أذىً، وأعدادها بدأت تقلّ. اشتد الضوء وارتفع الصوت.

بقايا من الطين ما زالت موجودة في أسفل قدميّ، واثقٌ أنا بأنّها ستزول عاجلًا. لا شيء يحجب عني الضوء، لكنّه ضوءٌ شديد السطوع، لا أستطيع أن أرى شيئًا. الضوء يعميني والصوت العالي يُطرشني.

يخف الصوت تدريجيًا، أسمع أصوات بشريّة مختلفة، زعيق، صراخ، صوت ضربات، ارتطام… فجأة أحسست بضربة على رأسي من الخلف، وامتد السواد. ظننت نفسي ميتًا. كنت أرى نفسي وأرى الآخرين. دوامات من السواد الذي يحيط بي، حدائق بأشجار رؤوسها مشتعلة بنار لا تنطفئ. كائنات غريبة تتقافز هنا وهناك. هل هو الجحيم؟ لا أظن، ربما هذا حلمٌ ثقيل. لا… لا، بالتأكيد هذا ليس موتًا. سأستيقظ الآن.

أتعبني النوم، استيقظت لأشرب من كأس الماء الموضوع على الطاولة المجاورة لرأسي. مددت يديّ، أمسكت الكأس ورفعتها إلى فمي. شربتْ. أحسستُ بطعم الدماء تسري في جوفي. أُضيئت الغرفة فجأة. كان سائلٌ لونه أحمر يملأ كأسي. لقد شربتُ دماءً لتوّي.

نهضت خائفًا، صرختْ. بحثت عن باب الغرفة ﻷجد سبيلًا إلى الخروج. لم أجد الباب. كانت الغرفة تحتوي على جدران خالية من أي فتحة، لا مدخل للهواء ولا مخرج له. كيف دخلت إلى هنا؟ لا أذكر تفاصيل الأشياء. كيف السبيل إلى الخروج؟ لا جواب. ربما كان من ضربني على رأسي هو من أدخلني إلى هنا. بدأت أتذكر بعض معالم الطريق الذي كنت أمشي فيه قبل أن أُضرب. لا أتذكر شيئًا قبل ذلك. يا إلهي! ما لها ذاكرتي؟ لماذا لا أذكر شيئًا؟ من أنا؟ ما هو اسمي؟ وما هذا المكان الذي أنا فيه؟ أهو سجن هذا؟ وكيف يكون بلا أبواب؟ من أين سأجلب هواءً نظيفًا بعد أن يتعفن هذا الذي عندي؟ لا تسأل، فسوف تتعبك الأسئلة، هكذا أجبت نفسي.

تيقنت بأنّني لن أخرج من هنا حيًّا، فقررت الاختلاء بنفسي كما يفعل الأنبياء قبل تلقي دعواتهم الإلهيّة. قلت لنفسي: سأحدث نفسي بما يخالج نفسي، لأجيب نفسي عمّا يدور في نفسي. وبدأت بالسؤال: لم السؤال؟ لم أعرف جوابًا. ولم الموت؟ من أجل أن يحيا آخر بموت أحدهم، قلت.

سمعتُ صوتًا آتيًا من الخارج. صرخت، علّ أحدهم يسمعني. ضربت الجدران بكفيّ فتضرجتا بالدماء دون جدوى. جلست في زاوية الغرفة وبكيت. تبولت على نفسي وأنا أبكي. وبكيت وبكيت وبكيت إلى أن جفت دموعي وانهد جسدي من تعب البكاء، فنمت.

استيقظت صباحًا من أجل الذهاب إلى العمل اليومي المُمل. عيوني تستقبل ضوء الشمس بصعوبة، نظرت حولي. هذه ليست غرفتي، وهذا ليس ضوء الشمس. من قال إنّني أستيقظ من أجل الذهاب إلى العمل؟ من قال إنّني أعمل؟ لم يكن لدي عمل منذ خُلق العمل. أين أنا؟ قفزت من سريري ذو الغطاء الأحمر وخرجت من الغرفة. لم يكن هناك باقي البيت. كنت واقفًا على جبل مغطى بالثلوج ولا شيء يغطيني جسدي العاري. كان البرد شديدًا وباب الغرفة اختفى من خلفي. لا تستطيع عينيّ أن ترى قمة الجبل أو سفحه. تكورت على نفسي من البرد. بدأ اللون الأزرق البنفسجي يحتل باقي ألوان جسمي. هكذا إلى أن غبت عن الوعي بسبب البرد.

أفتح عيني ببطء فأرى نفسي مربوطًا إلى ساق شجرة تفاح عملاقة مزروعة في صحراء لا نهاية لها تراها عيني. لا أستطيع التحرك. من ربطني هنا. يا إلهي! ما الذي يحدث؟ الطريق الطويل، الضربة، السجن، دوامات الظلام، البرد في الجبل، ما هذا؟

لا أعرف كم من الوقت قد مضى، لا أعرف التاريخ، لا أعرف الزمن. هل أنا مربوط لهذه الشجرة منذ يوم أو شهر أو سنة أو قرن، لا أعرف. لا طعام ولا شراب ولا تبوّل. لا شيء. ما هذا؟ أحاول التفكير بمكاني وبماضيّ. لا شيء.

"هي أنت، هل استيقظت؟" سمعتُ صوتًا قادمًا من ورائي. من هذا؟ لا أستطيع النظر خلفي. "من أنت؟" سألتُ الصوت. "أنا مربوط مثلك في الطرف الآخر من الشجرة" أجابني. "وماذا نفعل هنا؟ من أنت؟ أين نحن؟ ما هو اليوم؟" سألته بسرعة وبصوت عال.

ضحك بصوت عال. انتابتني موجة من الغضب. أعدت الأسئلة، صرخت، وهو ما يزال يضحك. انتظرته إلى أن انتهى من ضحكه التافه وسألته مرة أخرى: "أين نحن؟". قال بهدوء الحكماء المتصنع: "يبدو أنّك جديد هنا، نحن في قاع الجحيم يا صاحبي. وهنا في هذا القاع لا فرار. ستقفز من حلم إلى آخر دون أن تفهم شيئًا. دورة لا نهائية من الأحلام غير المفهومة، لا شيء سوى أحلام غير مكررة وغير مفهومة. وأنا هنا لأنّ أحلامنا قد تقاطعت هذه المرة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

في كل حين جولة

أبواق خرساء