28-نوفمبر-2017

همام السيد/ سوريا

قبل أن أركن سيارتي في مكانها المعتاد لمحتُ طفلين يستندان إلى السيارة المركونة خلفي. صوتهما المرتفع أثار فضولي لمعرفة فحوى حوارهما. اقتربتُ ببطء شديد ثم أطفأت المحرك. ورحت أستمع لهما باهتمام بالغ..

الطفل الأول. ضخم البنية وذو شعر أشقر، أما الثاني فيبدو أصغر حجمًا، وذا ملامح أكثر رقة من الآخر. كلاهما يرتديان ثيابًا مدرسيةً، وحقيبة كل واحد منهما محمولة على كتفيه.

الطفل الأول كان ممتعضاً، يشجع الثاني ويحمّسه.

- ما بيصير تضلك خايف يا زلمة.. عيب عليك..!  

الطفل الثاني يحاول تبرير أفعاله.

- ما بعرف.. بس وقت شوفها عم اتلبك.. ما بيطلع معي الحكي..

يعقّبُ الطفل الأشقر معنّفًا.

- لا تكون متل النسوان.. خليك زلمة.. إذا بتحبها عن جد لازم تخبرها بس تطلع من المدرسة..

الطفل الثاني يهز رأسه، ويرد بامتعاض منهيًا الحوار.

- طيب طيب.. أنا زلمة ونص.. بس وقت شوفها..! 

يقاطعه الطفل الأشقر بحزم.

- خلصنا بقا رامي.. إذا إنت زلمة فرجيني هلق وقت بتمرق من جنبك شو بدك تعمل..!

رامي يأخذ نفسًا عميقًا ثم يعلّق على كلام الأشقر.

- بتعرف.. أنا الحق علي إني خبرتك.

يسود الصمت بينهما. رامي يزدرد لعابه ويستجمع قواه، أما الطفل الأشقر فقد أخرج من جيبه علكة وأعطاها لرامي.

- خود.

يرد رامي.

- ما بدي.

يسأل الأشقر.

- زعلت..؟

يرد رامي بحياد مبطّن.

- لأ..!

ينظر الأشقر إلى عيني رامي بثبات وكأنه يتفحص كذبه من صدقه، ثم يزيل غلاف النايلون عن العلكة، يضعها في فمه، ويباشر في علكها.

أنا ما زالت جالسًا خلف المقود، أراقبهما عبر مرآة السيارة. وبعد ثوان من الانتظار والصمت يصلني صوت الطفل الأشقر وهو ينظر نحو طفلة تخرج من باب المدرسة وتتجه نحوهما.

- ليكا طلعت.. أنا رح وقف على جنب واتركك لحالك.. فرجيني شو رح يطلع معك.

يرد رامي وهو يخفي ارتباكه وتردده.

- ماشي..!!

يبتعد الطفل الأشقر عدة خطوات وفمه لا يتوقف عن العَلك، بينما تقترب الطفلة من رامي فيستوقفها دون تردد، مستجمعًا كل شجاعته.

- كيفك جنى.. 

تقف جنى وتتحاشى النظر إليه من شدة خجلها، لكنها ترد.

- الحمدلله.. كيفك إنت..

يبتسم رامي ويرد.

- تمام..

الأشقر يراقب ويعلِكُ من مسافة ليست ببعيدة، وأنا أراقب عبر المرآة دون إثارة أيّ ضجيج.. تمر برهة من الصمت بين رامي وجنى. ثم يتشجع ويتكلم.

- جنى.. أنا كنت بدي قلك شي.. بس دايمن بقول لحالي بعدين..!

ترتبك جنى فهي لا تعرف ماذا يتوجب عليها أن تقول. تمشي خطوة ثم ترجع. ثم تعقّب.

- شو بدك تقول رامي..؟

يتحاشى النظر إليها من شدة خجله وارتباكه. وهي تفعل نفس الشيء. كلاهما يريدان أن ينتهي هذا اللقاء، وفي الوقت نفسه يريدان منه أن يستمر لساعات غير محددة. يسود صمت ثانٍ ويكسره رامي بعد قرار دفين بخوض المغامرة، ويعترف دون تمهيد..

- جنى.. أنا بحبك..!

تبتعد عنه جنى خطوة ثم ترجع. ويشعر رامي أنه ارتكب خطأ جسيمًا. جنى تعدّل الحقيبة التي على كتفيها، وتستجمع شجاعتها هي الأخرى، وتعترف..

- رامي.. أنا كمان بحبك.. بس..!

رامي يبتسم وتملأ وجدانه الغبطة، لكن الفضول يستثيره لمعرفة ما وراء كلمة: بس..! فيسأل.

- بس شو جنى..؟

الطفل الأشقر يراقب مثلي بصمت. أما جنى فتنظر إلى عيني رامي بثبات، ثم تتراجع، ثم تجيب..

- ما بعرف.. باي رامي..!

تمشي خطوتين فيسرع رامي ويمسك يدها بلطف، فتقف جنى ولا تنظر إلى وجهه. يسألها مجددًا..

- إذا ما بتعرفي.. ليش قلتي بس..؟

تستجمع شجاعتها وتجيب.

- بصراحة.. أنا ما بخبي شي عن ماما..!

- إي..

- ووقت خبرتها إني بحبك خانقتني..!

- ليش..؟

- قالتي إنو إنت من داريا.. وأنا لازم ما احكي معك ولا اقعد جنبك بالصف..!

يجمد رامي في مكانه وهو ينظر إلي وجه جنى، ولا يعرف ماذا عليه أن يقول. جنى تنظر إليه نظرة خاطفة وتسحب يدها بلطف.

- باي رامي..!

تمشي مبتعدة عنه بخطوات سريعة. وهو ينظر إليها بثبات وهي تبتعد. الطفل الأشقر ينتهز فرصة ذهابها ويسرع نحوه. يسأله بلهفة..

- شو..؟ مشي الحال..؟

يستمر رامي في جموده، ونظره لا يغيب عن جنى. يُجيب..

- ما بعرف..!

يعلّق الأشقر..

- شلون يعني..؟ قلي شو حكيتو..؟

رامي يتركه وحده ويمشي بعكس الاتجاه الذي مشت فيه جنى، فيصرخ الأشقر..

- رامي.. استنى يا زلمة..!! رامي..!

يلحق به مهرولًا، ورامي لا يكترث لندائه..!

 

أما أنا، فلم يبق غيري في الطريق، ولم أستطع الحراك من داخل السيارة. شعرت أن وزني ازداد فجأة. صرتُ ثقيلًا، وكأن الشلل أصاب أطرافي. أنظر إلى رامي والطفل الأشقر وهما يبتعدان. وأنظر إلى جنى عبر المرآة حيث تغيب عند أول المنعطف.

 

  • تشرين الثاني/نوفمبر- 2016
  • النص مشاركة في الكتاب الجماعي "أما بعد"، الصادر عن "دار ممدوح عدوان" بتحرير وائل قدور.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سيقولون لكِ

في مديح الندم