17-سبتمبر-2021

الكاتب راكان حسين

تقدم لنا "بوابة المطر" (دار كل شيء، حيفا 2021)، المجموعة القصصية الأولى للكاتب راكان حسين، مدخلًا متعويًا للتعرف على رؤية صاحبها في مقاربته لعالمه الأرضي أدبيًا، بكل ما فيه من جنيات ماء، قصب مسحور، أسراب حمام تصحو وتغفو على المنحدرات في جبل حزّور.

في "بوابة المطر"، نعثر على قلب الرجل معلق بفلسطين، أرض آبائه التي تسربت إلى مخيلته عبر أحلام اليقظة والحكايا

في "بوابة المطر"، نعثر على قلب الرجل معلق بأرض آبائه، فلسطين، التي تسربت إلى مخيلته عبر أحلام اليقظة والحكايا. كل ذلك دون أن يحول بينه وبين عشقه الأبدي لمرابع الطفولة والصبا، مزيريبه، مركز سراة الأرض وسلمه السحري إلى بداية كل شيء. إلى حبه الأول يتفتح على وقع قدمي فتاة تلهو بماء برك موحلة، إلى مصابيح الضوء على تلال صفد تمر أمام ناظريه خيطًا رفيعًا من غبار مصفر، إلى الماء مرة أخرى حيث نهر اليرموك يواصل دربه السماوي بين مائين مقدستين؛ المزيريب وطبريا.

مآزق الهوية والمنفى.. فداحة العيش خارج اللامكان

في نصوص حسين لا نذهب لمعاينة حياتنا اليومية المعجونة بالمشاعر والأحلام والرؤى في خضم التجربة وأتونها وحسب، بقدر ما نذهب لمعاينة قلق الأسئلة الكبرى التي ما تفتأ تخترق وجودنا اليومي وتهدده بالزوال، خاصة ذلك السؤال المتعلق بهويتنا: من نحن؟ ومن نكون؟ ففي "بلا وطن " يجد اللاجئ الفلسطيني الهارب من الجحيم السوري نفسه أمام حقيقة غياب فلسطين من خارطة العالم كدولة، في توطئة لحذفها من خرائط الجغرافية كوطن، ومن ثم تخفيض حقيقة وجود المنتسبين إليها عبر وشائج الدم والحكايات ووثائق الإقامة المؤقتة إلى مستوى العدم الكلي المعبر عنه بالصيغة الرياضية"xxx"، التي ما أن يرى حضورها اللافت على تذكرة إقامتة الجديدة، حتى يدخل في عالم من الدهشة أمام إصرار الآخرين في التعرف عليه وفق منطق الشذوذ والغرابة المرافقة لأفلام الإباحة الجنسية، أو وفق منطق الجوالين العظام "الغجر"، اللاهين عن محنة العيش خارج المكان. فيما ذهنه محاصر بسؤال الهوية الوجودي، على النحو الذي عمد الأخوان رحباني مقاربته على لسان بطلتهما غربة في مسرحية جبال الصوان "بيظلوا يسألوك أنت منين؟ بدك تقول منين، ما فيك تكون مش من مطرح. إذا فيك تعيش بلا اسم، فيك تعيش بلا وطن".

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة يعرب العيسى

في الحوار القصير بينه وبين موظفة الهجرة الألمانية يكتشف بطل "بلا وطن "عجزه عن إثبات حقيقة انتمائه لبحيرة طبريا، التي مشى على مائها السيد المسيح ذات يوم، إزاء ثقل حقائق الوقائع القانونية لغياب فلسطين. فيحتال على عجزه بالسحر (الذهاب إلى عالم النوّر المدوخ)، في محاولة دفاعية من ذاته المفجوعة بمصابها الجلل (حذف وطنها من خرائط العالم والوجود)، لمنع عالمها الداخلي من التمزق والانهيار، عبر لجوئها إلى تقنية المواساة أو تخفيض المخاطر التي نجدها في التعبير القدري "الحمد لله على السلامة" أو تلك التي قد نجدها في التهكم الفني لآل الرحابنة "الوطن، البطولة، الأرض، مش أغلى من الحياة"، وصولًا إلى إقرارها بالضرر المتحقق، ومحاولة التعايش معه وفق الصيغة التصالحية" ومم يشكو المنفى؟ ومم يشكوا النّور؟".

إذا كانت "بلا وطن" درسًا معرفيًا بليغًا، في فهم أولويات الدفاع التي تلجأ لها النفس المكلومة لاستعادة توازنها المشروخ عند اصطدامها بحقيقة عجزها عن تغيير حقائق المنفى الراسخة، عبر تصالحها مع حقائق الأمر الواقع. فإن "الخبيئة" ماهي إلا الرؤية المتخيلة لتجاوز ذلك العجز عبر المقاومة" الوطن، البطولة، الأرض، مش أغلى من الحياة، بس الشماتة أصعب من الموت"، كما الرد على جملة التخيلات الأسطورية أو الحكائية التي ساقها منظرو الفكر الاستشراقي في سياق تبريراتهم التوراتية لاحتلال فلسطين "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، بتخيلات أسطورية مضادة لها.

فالحكاية العجائبية في "الخبيئة"، حكاية الطوفان التي تكشف أمطاره الغزيرة عن نواويس المقبرة الملكية الكنعانية، ومن ثم انبثاق الفتاة الفلسطينية فضة على مسرح الحدث الأسطوري، لتقوم بمهمة الكشف عن طبيعة الشيفرة السرية للكحل الكنعاني، المبثوثة في ثنايا الرقاع الجلدية. لا تهدف إلى إمتاع مستمعيها وإبهارهم بأجواء العالم السحري التي تجري فيه وحسب، بقدر ما تتجاوزه إلى غايات الدرس التربوي أو الأخلاقي، وهو في حالتنا هذه ترسيخ أحقية الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، التي لم ينقطعوا عن العيش فيها لحظة واحدة، حيث يقدم الكحل بوصفه الرابط السحري بين سكان فلسطين المعاصرين وسكانها الكنعانيين.

تبدو فكرة الكحل ومن ثم توظيف قوته السحرية المتمثلة بقدرته على إنتاج فعل الاستبصار أو الكشف عن أحداث الماضي والحاضر وصولًا إلى المستقبل، تنويعًا على فكرة الاستبصار عند زرقاء اليمامة، مع ملاحظة أن الحرتقة، أو الإضافة الحكائية عند راكان تتمثل في جعل التراب، تراب فلسطين هو المادة الجوهرية لتفعيل سحر فضة، لا حجر الإثمد الذي يتم تخفيضه إلى منزلة الدور الثانوي. الأمر الذي يضيف للمغزى الأولي مغزى خفيًا يتجاوز عملية ترسيخ الحق في الأرض إلى العمل على استرجاعها، وهي المهمة التي تنهض به الجدة المنخرطة في عملية الحكي وضبط إيقاعه إلى جمهور الأحفاد، بقصد تهيئتهم نفسيا للانخراط في رحلة تفعيل السحر، أي المقاومة.

في نصوص حسين لا نذهب لمعاينة حياتنا اليومية المعجونة بالمشاعر والأحلام والرؤى في خضم التجربة وأتونها وحسب، بقدر ما نذهب لمعاينة قلق الأسئلة الكبرى

من عالم عجائبي إلى آخر أشد عجائبية، يمضي بنا صاحب البوابة من "الخبيئة" إلى "الهولة"، على نفس المنوال من اللغة الحلمية أو الرمزية التي ينهض فيها أبطال حكايته أو شخوصه بمظهر الأبطال الغرائبيين، أو بلغة أخرى بمظهر الأبطال الرموز ضعيفي الصلة بعالمهم البشري. حيث يتبدى لنا "فهد" على نحو غامض شديد الرمزية لينهض بمهمة تمثيل كل لاجئ فلسطيني، في نفس الوقت التي تتبدى فيه "الهولة" أقرب إلى المكان العجيب المفارق للأمكنة الفيزيائية للبشر، لتصل إلى أذهاننا على شكل رمزي للمنفى الفلسطيني بطابعه الجحيمي.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة الكتب بوصفها معيارًا للحكم على الإنسان

يتبدى المنفى في "الهولة" على شكل تصورات ذهنية تحيل إلى تصورات كابوسية، فهو أقرب بطبيعته إلى المكان الأسطوري الذي يجمع في داخله التضادات والمفارقات، دون أن يتسبب ذلك في فقد أي من خصائصه. فهو مكان قابل للتحديد الوجودي من جهة، من حيث كونه يقع بالقرب من البئر الجحيمية، وهو بنفس الوقت مكان غير قابل للتعيين الفيزيائي الخاص بالأمكنة الطبيعية من جهة أخرى، حيث يستحيل العثور عليه بالقرب من "خراب النفل"، أو أية مكان جغرافي على الطريق الذاهب من طبريا إلى جلّين، الأمر الذي يجعله أقرب ما يكون للتيه أو الصحراء، غير القابل للاختراق، ذلك أن مهمته الجوهرية تنبع من قدرته على احتجاز مرتاديه في أحشائه، تمهيدًا لابتلاعهم على النحو الذي انتهى إليه مصير "اللاجئ فهد".

المكان، أو قل المنفى في "الهولة"، مثال المكان الغريب غير القابل للاستصلاح أو الاستئناس، لا بسبب طبيعته الصخرية وحسب، بل بسبب طبيعته الوظيفة المتأتية من كونه ملجأ أو مأوى، التي تجعل من المستحيل تحوله إلى موطن جديد لافتقاره لجميع مكونات المكان الطبيعي القابل للتملك عبر الأنشطة الطبيعية. الأمر الذي يجعل منه مكانًا كابوسيًا، حيث البقاء فيه جحيم أبدي لا يطاق، كما الخروج منه جحيم لا يمكن اجتيازه إلا بالموت أو المرور منه إلى تيه آخر.

المكان، في قصص راكان حسين، مثال المكان الغريب غير القابل للاستصلاح أو الاستئناس، لا بسبب طبيعته الصخرية وحسب، بل بسبب طبيعته الوظيفة المتأتية من كونه ملجأ أو مأوى

ثمة صلة عميقة بين "الهولة" و"إضراب حتى إشعار آخر" نستدل عليه من الحبل السري الذي يربط كليهما بالمنفى. ففي حين تبدو "الهولة" مشغولة برصد حالة المنفى الفلسطيني بوصفه كابوسًا، فإن "إضراب حتى إشعار آخر" تجد نفسها مشغولة بالطريقة التي يتحول فيها ذلك المنفى إلى لعنة أبدية، قابلة للانتقال والعدوى من الآباء إلى الأبناء، مثالها في ذلك مثال الخطيئة الأصلية، المتمثلة بخطيئة تمرد الشيطان على إرادة الآلهة. ففي الحكاية يضطر الأب راكان المقيم في منفاه الهنغاري إلى خوض غمار محنة المجازفة بحياته، عبر إضرابه عن الطعام، بقصد لّم شمل أبنائه العالقين في تركيا، لا لشيء سوى لأن قوانين الدولة الهنغارية لا تقبل الاعتراف بوثائق إقاماتهم المؤقتة، كونها لا ترتقي في طبيعتها القانونية إلى مستوى جواز السفر الخاص بمواطني الدول.

اقرأ/ي أيضًا: فيليب روث.. كابوس السيرة وغوايات الشهرة

تخييل فلسطين والقبض على جنتها المفقودة عبر باب الحكاية

تشف المسيرة الكفاحية الطويلة للشعب الفلسطينين عن وجود حدثين مؤسسين يخترقان جميع مستويات بناه الحياتية أو الروحية، ففيما يتحدد الأولى بالنكبة 1948، بوصفها عملية تطهير عرقي من جهة ومدخلًا إلى المنفى أو التيه الفلسطيني من جهة أخرى، فإن الحدث الثاني، انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965، يتحدد بما يضاد الحدث الأول ويبطل مفاعيله الكارثية، آثار المنفى، من حيث كونه تجسيدًا لفكرة العودة. وهكذا أدى حضور العودة عبر التحرير في الحياة العاطفية لفلسطيني المنافي، إلى تحول في طبيعة وعيهم لفلسطينهم أو جغرافيتها، بحيث لم تعد مطرحًا لتجسد الجيولوجيا في المكان، بقدر ما أصبحت مطرح لتجسد القداسة فيه، وما كل ذلك سوى المرور بعملية المماهاة الذهنية بين صورة فلسطين المتخيلة وصورة الجنة المفقودة. كما أدى في السياق ذاته إلى تحول آخر في طبيعة المشاركين الافتراضين في رحلة العودة تلك، المقاومين، الذين صاروا بين ليلة وضحاها أقرب للطبيعة المثالية للقديسين المنذورين للفداء والتضحية، المتعالين عن طبيعة الإنسان البشرية المحكومة بمشاعر الخوف والألم كما الفشل والاحباط.

تقدم لنا "شال" فرصة مناسبة لفهم العلاقة الجدلية بين الكاتب ونصه، دون أن يتسنى لنا معرفة الطرف الذي قام باقتحام الصومعة على الآخر، هل هي فكرة العودة إلى فلسطين المتخيلة كما حرص على تصوريها المخيال الشعبي؟ أم هي رغبة الكاتب بالتماهي مع تلك الفكرة والاستثمار فيها على غرار استثمار الأدب اليوناني في رحلة الأوديسة؟ فالفلسطيني المتخيل كما تقدمه "شال" هو الفلسطيني المنذور روحيًا لفكرة العودة، ذلك أن كل الأماكن التي سيمر بها أو سيرتحل عبرها مكرهًا، ليست سوى محطات على طريق العودة المقدسة باتجاه فلسطين. فحين تجد بطلة "شال" نفسها في قارب الهجرة الذي يوشك على الغرق بفعل الوزن الزائد، محاصرة بسؤال البقاء الوجودي، النجاة، وبين قدرتها على الاحتفاظ بأعز الأشياء الحميمة على قلبها، تختار التخلي عن كل شيء، عن ذاكرتها المؤقته في اللجوء تحديدًا، عن ذكرياتها العائلية في ألبومات الصور، عن تلك المخزنة في رائحة القهوة على شرفة البيت في اليرموك، إلّا عن الشال، الخريطة التي نسجتها أمها يومًا، والتي أودعت فيها خريطة الطريق إلى بيت أهلها في جبل حزور كما علامات المكان الكبرى فيه؛ البئر وشجرة التين ودرب الحصان على التل.

على الضد من "شال" التي تضع نفسها في تماهي عميق مع المخيال الشعبي عن فلسطين ومقاوميها، تصحبنا "سالم" لمعاينة حياة أولئك المقاومين في حالتهم البشرية المحضة المحاطة بالألم والاحباط، كما تصحبنا لمعاينة سذاجة تصورنا عن استسهال فكرة العودة ذاتها وصدقية انخراط الجميع في رحلتها المقدسة. فما "سالم" سوى حكاية ذلك الشاب الفلسطيني الذي حدث له أن استمع يومًا لحكاية "الخبيئة"، ومن ثم أخذ على عاتقه تفعيل السحر في مِروَد فضة عبر المقاومة، التي لم تكلل بالنجاح، فإذا به يسقط أسيرًا في أيدي أعدائه. يصاب "سالم" إثر تحرره من الأسر الاسرائيلي بخيبة أمل كبيرة، فبدل أن يستقبل استقبال الأبطال جراء فعله البطولي، يتم اصطحابه إلى إحدى سجون النظام السوري المقاوم، كي يتم التأكد من حقيقة انتمائه لفسطين، هو الذي مشى على دروبها منذورًا للموت والفداء. ممزقًا بين حقيقة مشاعره الصادقة عن فلسطين، وبين حقيقة هدر كرامته في سجون المخابرات التي لا تبالي بصدق مشاعره، يصاب الرجل بصدمة نفسية عميقة، تأخذه في طريقها إلى عالم الكحول المدوخ، الذي لا يلبث أن يسلمه بدوره إلى عالم الجنون الأرحب، عائدًا إلى فلسطين التي أحبها من بوابة مقتنيات أهلها التي حرص جاره الطيب أبي غصّاب أن يقيم لها ما يشبه المتحف المهجور.

ما الحدود؟ يقول الفتى لنفسه "في وادي الصراخ". ليأتيه الجواب: "أسلاك شائكة ورائحة موت"، هو لا يصدق. الجندي الطيب في عين التينة الذي يحرس ظل كل ذلك، لا يصدق بدوره. مسحورًا بالشال الأبيض في يد الفتاة الصغيرة التي راحت تلوّح له بالأبيض والأمنيات، يبدأ الشقي رحلة عودته إلى البلاد أو ما يشبه ظلها، يمضي عميقًا في دوربها، يفتتحها بقدميه الغضتين، كما لو كان يفتتح مشهد الرحلة المقدسة التي سينخرط في دربها الصاعد آلاف الشباب الفلسطيني من لاجئي سوريا 2011 في طريق عودتهم إلى البلاد التي سمعوا عنها دون أن يروها.

تشف المسيرة الكفاحية الطويلة للشعب الفلسطينين عن وجود حدثين مؤسسين يخترقان جميع مستويات بناه الحياتية أو الروحية: النكبة 1948، وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965

في "بوابة المطر"، نكتشف أن العودة إلى أرض الوطن عودات، بعضها متخيل كما في "شال" وبعضها محبط كما في "سالم"، فيما الآخر فطري لا يعرف من الحدود والحواجز التي تقيمها بين الناس سوى اسمها "وادي الصراخ"، إلا أن الأخير منها "الطوفان" واقعي وواقعي جدًا، مع أن العودة فيها لا تتم إلى فلسطين تمامًا، إلا إنها لا تخرج عن فكرة العودة إليها، ذلك أن فلسطين تحولت في عالمنا المعاصر إلى رمز كل عودة باتجاه الجنة المفقودة لأصحابها، جنب إلى جنب مع تصورات إنسان الملحمة البابلية "حينما في الأعالي"، التي لم ير فيها سوى نموذج للمكان المثالي الخالي من المرض والخوف والشقاء كما النقص والحاجة، وهو الأمر الذي يتطابق مع تصورات "خطاب" عنها كمرعى كبير، ومكان لا هم فيه ولاحزن.

ثمة في "الطوفان" أو بالأحرى "بوابة المطر" عودتان، عودة إرادوية وواعية مع أنها متعثرة ومعجونة بالألم، تنتهي بصاحبها "خميس" إلى سجون مخابرات حرس الحدود السوري بتهمة الخيانة العظمى، وأخرى واقعية سحرية على نحو عجائبي، تنتهي ببطلها "خطاب" بالوصول إلى جنته الموعودة في "كفر الما"، بمعونة الطوفان الإلهي الذي يدمر حقول الألغام ويحجب أنظار حرس الحدود الاسرائيلي كما الأممي والأسدي على حد سواء. إلا مع ذلك تظل عودة محبطة شأنها في شأنه العودات السحرية الأخرى التي تتبعنا أثرها في "وادي الصراخ" و"سالم"، ذلك أن الرغبة بالعودة شيء والقدرة على تحقيقها وإنجازها على النحو المأمول شيء آخر.

اقرأ/ي أيضًا: يوكو أوغاوا في "شرطة الذاكرة".. تجريد الإنسان من ماضيه وعزله عن حاضره

الفلسطيني السوري.. الانحياز لفكرة الحرية

أدت عمليات التطهير العرقي التي تعرض لها الفلسطينيون 1948 إلى إعادة تعرفهم على ذاتهم بوصفهم لاجئين أو غرباء في مكان موحش، يأبى بسبب طبيعته المؤقتة وإستحالة تملكه أن يصير وطنًا بديلًا عن وطنه الأصلي، الأمر الذي ولّد في نفوسهم نفورًا عميقًا يشابه الشعور المتولد عن شعورهم بالاغتراب عن شيء ما أو عدم الانتماء إليه. إلا أن عدم القدرة على الانتماء إلى المكان أو المنفى بسبب العوائق القانونية الخاصة بقضايا المواطنة والتجنيس، لم يحول دون الانتماء إلى قضايا وهموم المحيط الاجتماعي الذي يعيشون بين ظهرانيه، الأمر قاد إلى وجود هوية مركبة عند الفلسطيني اللاجئ، فهو من جهة فلسطيني منخرط في رحلة العودة ومظلتها الكبرى منظمة التحرير، وهو من جهة أخرى منخرط بالهموم والمصائر المعيشية والسياسية للشعب الذي يعيش بينه.

أن تكون فلسطينيًا في سوريا عليك أن تنخرط في الكفاح على جبهتين، جبهة الحياة اليومية وتحصيل الرزق، وجبهة مقارعة الاستبداد

فأن يكون المرء فلسطينيًا يعيش في سوريا، يفرض عليه أن يكون منخرطًا بالكفاح على جبهتين، جبهة الحياة اليومية وتحصيل الرزق، وجبهة الحياة الخاصة بمصائر السوريين المتولدة عن مقارعتهم لاستبداد السلطة الحاكمة. لذا لا عجب أن نرى قصص "بوابة المطر" لقاص فلسطيني متورط روحيًا في قضايا الشأن السوري، ومنحاز بدرجة أو بأخرى إلى رغبات شعبه في الحرية والكرامة الإنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: "الأحلام منحتني القصص".. وقائع حوار منسيّ مع بورخيس

تقدم لنا "خلف" نفسها بوصفها التقاطة ذكية عن عبثية الحرب الأسدية ولامعقوليتها، في إصرار مفتعلها على تقديمها كشكل من أشكال الحرب الدونكشوتية ضد حكمه الفاضل، فيما حقيقتها لا تتعدى حقيقة الإبادة الجماعية التي تخاض بالحديد والنار ضد إرادة الناس الراغبين بالخلاص من استبداده الأسدي. ذكية وحاذقة هي مقاربة راكان للحرب الأسدية بوصفها عبثًا خالصًا عبر تمريرها لنا عبر التهكم. فبدل أن نجد أنفسنا غارقين في دموع الحزن على ضحاياها الأبرياء، نجد أنفسنا غارقين في دموع الضحك على مفارقاتها العجائبية.

هي الحرب مرة أخرى، وبدل أن تغرقنا بدموعنا الشقية على عبثيتها الطاغية، تعيدنا إلى الحقيقي فينا، الألم، ذلك الكائن الوحشي الذي لا يتوقف عند نهش النسق الكامل في حليب الأمهات، بل يتجاوزه لنهش ألعاب أطفالهن وأحلامهم المخبئة في الكتب المدرسية. لا تمثل "مكالمة فائتة" شهادة رجل مفجوع بفقد أحبته، الذين يتم قتلهم مرتين، مرة بفعل براميل الموت العمياء، ومرة أخرى بفعل الأكاذيب الحكومية، بقدر ما تمثل حالة فنية قصوى للقبض على علاقة الموت بالزمن. تسقط القذيفة البرميل على رؤوس الناس، فتصيب فيما تصيبه زمنهم، زمن حيواتهم اللاهية عن كل هذا الجنون، كما زمن أحبتهم، يرونه يتبدد تحت ثقل تكات عقارب الثواني وهي تنأى بنفسها عن هول فجيعتهم المتلفزة. تكة تكتان ثلاثة ثم يفقد الزمن سيولته المعهودة، ليصير مطرقة من الفولاذ الذي تؤرخ للحظتين مفارقتين؛ لحظة ما بعد الحادية عشرة والربع، ولحظة ما قبلها. ما قبلها؛ أم تطير ضحكات ابنها إلى حدود السماء، تقايض قلقه الطفولي بالحكايا؛ حكاية الشجرة التي تصير أم كل أحد، اليوم الأخير في حياة السنجاب الذي أصر على لعب دور بابا نويل في غيبته الكبرى، ومن ثم ما بعدها؛ لا أم ولا ابن ولا تلك الضحكة الباسقة بينهما.

هي الحرب مرة أخرى، وقد جاءت على هيئة وحش أسطوري لايعير فرقًا بين الوردة والسكين، فكيف يعقل ليد "ماري" الوادعة التي تحمل ورودًا لأبناء مدينتها المحتجين ضد عسف الحكومة، أن تصير سكينا حاقدة في يد أحدهم. على السطح تبدو "أرجوان" مرافعة ضد إدعاءات الحكومة الزائفة عن حربها الكونية ضد الإرهاب الماحق، إما في العمق فتتبدى على شكل مرافعة ضد تنميط الحياة، ضد الرضوخ لقسمتها الغير عادلة "من ليس معنا فهو ضدنا، الرمادي لون الطاعنين بالخبث". تساعد أم هادي، زوجة أحد أثرياء الحرب، الذي سينهض بمهمة السمسار للراغبين بشراء حيواتهم من القضاء والقدر الأسديين، ماري في الهروب من البلاد التي حكمت عليها بالموت بسبب وردة بيضاء. تنتصر أم هادي للحياة، للرمادي في درجاته اللانهائية، لفطرتها الإنسانية التي تملي عليها عدم الانخراط في تلك القسمة السوداء للسوريين، ما بين سفاحين وضحايا.

لا عجب أن نرى قصص "بوابة المطر" لقاص فلسطيني متورط روحيًا في قضايا الشأن السوري، ومنحاز بدرجة أو بأخرى إلى رغبات شعبه في الحرية والكرامة الإنسانية

على عكس ما قد تظهره القراءة المتعجلة لـ"المقبرة المعاصرة"، فإن ثيمتها الرئيسية تدور حول الحرب أيضا، بفارق وحيد يتمثل في كون وقائعها هذه المرة لا تجري على أجساد السوريين وحيواتهم، بقدر ما تجري على الضد من عقولهم ووجدانهم. فالسلطة التي لاهم لها سوى تأبيد حكمها الاستبدادي على محكوميها، لا تفعل شيئًا سوى إلهائهم بقضاياهم الصغيرة، كالعناية بموتهم المؤجل، ومن ثم جعل هذا الموت أو مطرحه المقبرة موضوعًا للصراع الدنيوي بينهم، في الوقت الذي كان من المفترض أن يكون موضوعًا للتأمل الروحي في شؤون حياتهم الفانية.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو وضرورية الندم الفكري

الحَبكة، أساليب السرد، المتخيل في بوابة المطر

تقدم لنا الحَبكة القصصية في التعامل معها استنادًا إلى المآلات الذي قد تحكم مصائر الشخصيات الرئيسية في العمل الأدبي فرصة للتعرف على الظروف التي ساهمت في إنجاح أو إعاقة مهمتهم، كما التعرف على مدى أدبية الحكاية أو واقعيتها المفرطة، وصولًا إلى التعرف على مدى حرفية الكاتب في خلق التشويق المناسب، كما ضبط نهايتها على نحو متقن لا لبس فيه.

ففي مقاربتنا لمدى أدبية "الهولة" استنادًا إلى مصير بطلها "اللاجئ فهد"، نجد أنها أقرب إلى القصة الواقعية على الرغم من نهوضها على لغة العجيب المدهش الخاص بالحكايات الشعبية، وما ذلك سوى أن الأحداث التي قدمت لمصير "فهد" لا تترك لنا مجالا للتفكير بمصير آخر له سوى سقوطه في قاع البئر الملعونة. في حين تقدم لنا "بلا وطن" مثالًا عن النهايات المتخيلة أو الأدبية، التي نجحت إلى حد كبير في تجاوز توقعاتنا الذهنية عن سؤال الهوية، التي كانت منصبة على إحتمالية رفض ومقاومة بطلها لمأزقه الوجودي أو الهوياتي، الذي وجد نفسه فيه عبر استنجاده بحقائق التاريخ والجغرافية. فإذا بها تأخذنا إلى مطرح مغاير تمامًا، مطرح يتم فيها السخرية من سؤال الهوية ذاته في عالم الإنسان المعاصر، وحصرها في المطرح الذي يستطيع أن يمارس فيه ذلك الإنسان حريته كما حقوقه السياسية والمدنية.

في المفاضلة بين القصتين الأكثر تشويقا في حبكتهما أو مصائر أبطالهما "شال" أم "أرجوان"، فإن المرء يميل لـ "أرجوان"، كون النهاية فيها (اكتشاف ماري لحقيقة المبلغ الذي أعادته لها أم هادي، أو بالأحرى الجانب الإنساني في شخصية أم هادي، التي ظلت صورتها في عقلنا الباطن طيلة أحداث القصة مثال لزوجة السمسار الجشعة) قد جاءت على نحو مباغت وغير متوقع شأنها في ذلك شأن الجملة الأخيرة في بنية القصيدة الحديثة، التي قد تذهب بها إلى مستوى عالي من الدهشة. هذا في الوقت التي بدت فيها النهاية في "شال" تحصيل حاصل، نظرًا لمجموعة الرموز التي تم حشدها في الشال كرمز للعودة وأداة من أدواتها، في الوقت الذي كان على القاص أن يعالج النهاية المفترضة للشال على نحو أكثر تشويقًا، كأن يتركه يسقط في الماء رغمًا عنها، فيما يتفرغ هو لاظهار الصراع النفسي التي أخذ يعصف بروحها؛ أتغطس وراءه في الماء، أم تنصت لنداء غريزة البقاء فيها.

يبدو صاحب البوابة "في المقبرة المعاصرة" مثال قائد الفرقة الموسيقية المأخوذ بمهمة ضبط إيقاع عازفيها في اللحظة الحاسمة، وهو الأمر الذي نلحظه في جعل نهايتها تتحدد في مباشرة الشيخ قراءته لسورة البقرة والدعاء له بالحمد. فيما تعوزه تلك الدقة في ضبط الإيقاع حين يصل الأمر به إلى "خلف"، الذي كان من المفترض أن تنتهي في لحظة موت "أبي زيد العظيم" العبثية لرجل أمضى حياته يتشبث بالحياة وإذا به يفقدها بفعل قذيفة عمياء، لا في أية لحظة أخرى.

ثمة سحر خاص في "بوابة المطر"، ذلك أنها لا تمكننا من المضي عميقًا في عالم كاتبها الشخصي وحسب، بل تولّد فينا الحنين إلى زمن طفولي

في ذهابنا مع أساليب راكان اللغوية كما السردية، نجده مهمومًا في توظيف المتخيل أو الأدبي كخطاب ذي وظيفه رسولية ذات طابع تعليمي من جهة، كما في "الخبيئة" و"الهولة" و"رسم لذة"، أو ذي وظيفة تأملية تحض على التبصر بالطابع اللاعقلاني لواقع السلطة المستبدة التي لا تقيم وزنًا يذكر للعقل والمنطق الآدميين، كما في "خلف" و"المقبرة المعاصرة" من جهة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "طبيب أرياف" لـ محمد المنسي قنديل.. أرض الزمن الآسن

ثمة سحر خاص في "بوابة المطر"، ذلك أنها لا تمكننا من المضي عميقًا في عالم كاتبها الشخصي، الذي أثبت أن لديه قدرة عجيبة في تحويل الخاص واليومي إلى أدبي ومتخيل وحسب، بقدر ما تولد فينا الحنين إلى زمن طفولي، عشنا فيه أقرب ما نكون لمنطق "الجنة المفقودة"، التي لا تعترف بحدود فاصلة بين الممكن والمستحيل، وبين المؤقت والأبدي، وبين الواقعي والمتخيل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ممدوح عزام.. مصائر الأبطال وشيفرات الكتابة السردية

ماركيز بلا ذاكرة